في مشهد معماري جديد يتخطى حدود الجماليات نحو وظيفة بيئية وأخلاقية، يُجسّد جناح هولندا في إكسبو 2025 بأوساكا مفهوم هندسة البناء الدائري باعتباره نهجًا استراتيجيًا لمعالجة أزمة استنزاف الموارد وتغير المناخ. المشروع ليس مجرّد منشأة مؤقتة، بل بيان معماري يجمع بين العلم، العمارة، والهندسة البيئية، لتقديم رؤية عملية لعالم ما بعد الكربون.
رؤية المشروع: هندسة مؤقتة بقيمة دائمة
تم تطوير الجناح بواسطة RAU Architects بالتعاون مع DGMR للاستشارات الهندسية وTellart للتجربة التفاعلية، بالتنفيذ المحلي عبر شركة Asanuma اليابانية.
الفكرة الجوهرية تتجاوز البناء من أجل العرض، إلى البناء من أجل التدوير، حيث يُعاد استخدام كل مكون بعد انتهاء المعرض. وهذا التحوّل هو جوهر ما يسمى “الهندسة الدائرية”، أي الانتقال من نموذج البناء الخطي (استهلاك ثم هدم) إلى نموذج دائري يعتمد على دورة حياة مرنة، وهو محور هندسة البناء الدائري.
“ما لا نحتاجه اليوم، قد يصبح جوهر مشروع آخر غدًا.”
تفصيل تقني: البناء المؤقت كمنصة تكنولوجية
النظام الإنشائي القابل للتفكيك
- الهيكل الحامل: 1620 طن من الفولاذ المعياري المقاوم للزلازل
- طريقة الربط: براغٍ ووصلات ميكانيكية مرئية
- التوزيع الإنشائي: شبكي قابل لإعادة التشكيل
- الامتثال: مطابق لمعايير الزلازل والأعاصير اليابانية
الجاهزية لإعادة الاستخدام
- بعد انتهاء المعرض، يُفكك الجناح بالكامل إلى وحدات قياسية تُنقل داخل حاويات شحنويتضح أن هندسة البناء الدائري ممكنة من حيث إعادة الاستخدام المثلى للموارد.
- العناصر مُشفّرة ضمن نظام Madaster، الذي يُسجل كل مكون ضمن “جواز مادة” رقمي يحوي تركيبه، حالته، عمره المتوقع، وقيمته المادية المستقبلية
مقارنة معيارية:
| عنصر | معيار البناء الدائري | البناء التقليدي |
|---|---|---|
| الهيكل | قابل للفك | ثابت (لحام دائم) |
| دورة الحياة | 100% إعادة استخدام | غالبًا الهدم والتخلص |
| البصمة الكربونية | منخفضة جدًا | عالية بسبب النفايات |
| التوافق المستقبلي | مرن للتطوير أو النقل | غير مرن |
دمج الطاقة والبيئة: الجناح كمنظومة طاقية حية
يتعدى الجناح كونه مبنى، ليُصبح نظامًا بيئيًا مُصغّرًا يشجع على هندسة البناء الدائري لتلبية الاحتياجات الحديثة.
- الكرة المركزية (بقطر 10.6 م): مستوحاة من “شمس المستقبل” لبرج تارو أوكوموتو، تعمل كرمز للطاقة المتجددة، وتخلق محيطًا داخليًا ديناميكيًا بفضل السقف العاكس.
- الإضاءة والتحكم: تعتمد كليًا على الطاقة المتجددة، وتتكامل مع الجهاز التفاعلي “Orb” الذي يحمله كل زائر.
- التهوية والإضاءة الطبيعية: تصميم مفتوح يحد من الحاجة إلى أنظمة ميكانيكية تقليدية.
استحضار الماضي: الإيدونومي كنموذج مرجعي
في مشهد رمزي، يربط التصميم بين تقنيات العصر الرقمي ومنظومة “الإيدونومي” اليابانية في القرن السابع عشر، حين كانت اليابان تعتمد نظامًا اقتصاديًا مغلقًا يعيد استخدام كل شيء: الورق، المعادن، الخشب، وحتى نفايات المطبخ.
يعيد الجناح استحضار هذا التاريخ عبر تقنيات حديثة: من تتبع المواد بالذكاء الاصطناعي إلى تصنيع وحدات قابلة للتدوير بالروبوتات، مما يعكس فلسفة هندسة البناء الدائري بشكل فائق الذكاء.
تجربة الزائر: العمارة التفاعلية في خدمة الوعي
عند دخول الجناح، يتلقى الزائر “Orb” وهي وحدة ذكية تضيء وتتفاعل بناءً على الموقع والمحتوى.
هذه التجربة تُحوّل الزائر من متلقٍ سلبي إلى عنصر فاعل ضمن منظومة معمارية تستجيب لحركته وتفضيلاته، مما يبرز ملامح من هندسة البناء الدائري.
- التفاعل البيئي: Orb يقيس جودة الهواء، ويربط الزائر ببيئة الجناح
- التحفيز المعرفي: المحتوى مُصمَّم لتحفيز الأسئلة لا تقديم الأجوبة الجاهزة
منظور تحليلي: ما الذي يجعل هذا المشروع رائدًا فعليًا؟
- إثبات عملي للهندسة الدائرية، في واحدة من أصعب البيئات الإنشائية (اليابان)، وهو ما يعزز مفهوم هندسة البناء الدائري.
- قابلية التكرار العالية في مدن المعارض، مواقع الكوارث، أو حتى مخيمات اللجوء
- التحوّل من العمارة الدائمة إلى العمارة النشطة، والتي تتنقل وتتجدد حسب الحاجة
- دمج التكنولوجيا والمواد البيولوجية ضمن بنية قابلة للحياة الاقتصادية
توصيات للمطورين والمعماريين
- استخدم نظام “جواز المواد” في مشاريعك الطويلة الأمد لتقليل الفاقدوهذا ينسجم مع فلسفة هندسة البناء الدائري.
- راجع خيارات التركيب الجاف بدل الصب واللحام، لتسهيل التفكيك المستقبلي
- جرّب دمج أجهزة تفاعلية مثل Orb لتقديم تجربة سلوكية غير خطية في مساحات العرض
خاتمة: نحو مستقبل معماري قائم على المرونة والوعي
يمثل جناح هولندا في إكسبو 2025 أكثر من مجرد تجربة معمارية مبتكرة؛ بل هو دعوة صريحة لإعادة التفكير في كيفية بناء عالمنا، ليس فقط من حيث الشكل والوظيفة، بل من حيث الأثر البيئي والدورة الكاملة لكل مادة تُستخدم.
من خلال اعتماد هندسة البناء الدائري، يصبح المعرض منصة لنشر فكر جديد يتجاوز حدود المكان والزمن، ويُلهم المعماريين والمطورين لإعادة تعريف مفاهيم الثبات، الاستهلاك، والتصميم المؤقت.
في عالم يواجه تحديات متزايدة في الموارد، الطاقة، والاستدامة، تظهر مثل هذه المشاريع كنماذج قابلة للتكرار، تفتح الباب أمام جيل جديد من البُنى التحتية الذكية التي لا تكتفي بخدمة الإنسان، بل تحترم الأرض أيضًا.
ومع استمرار تطور هذا التوجه، ستبقى التجارب مثل جناح هولندا دليلًا حيًا على أن الابتكار الحقيقي يبدأ حين نضع الإنسان والبيئة في قلب التصميم.
ArchUp هي منصتك لمتابعة كل ما هو “معماري“: أخبار، تحليلات، وتصاميم من قلب الحركة المعمارية الحديثة.
