إبراز: مؤسسة ثقافية تعيد تعريف الضيافة والإبداع في قلب لندن
إبراز: تجربة ثقافية تتجاوز المعرض التقليدي
في مدينة لا تترك مجالًا كبيرًا للتوقف، تسعى مؤسسة جديدة إلى تقديم تجربة راديكالية بهدوء. إبراز، الممتدة عبر مبنى مكون من ستة طوابق بمساحة تبلغ 10,000 قدم مربع والمدرجة ضمن المباني التاريخية من الدرجة الثانية، لا تكتفي بوصفها معرضًا فنيًا أو مكانًا للعروض. بل تتخذ من نفسها منصة تجمع بين الخيال والفكر، حيث تُطرح الأسئلة المعقدة، وتُستكشف إمكانيات جديدة، وتصبح الضيافة جزءًا من ممارسة يومية.
الجذور والتأسيس
تأسست إبراز على يد لينا لازار عام 2011 كجزء من مؤسسة كامل لازار، وبدأت كمنصة إلكترونية تهدف إلى مشاركة الثقافة البصرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومع انتقالها إلى فضاء مادي، يمثل هذا الفصل الجديد خطوة نحو تعزيز تواجدها في مدينة تراها لازار مركزية لطموحات المشروع. كما تقول لازار: “لا توجد مدينة أكثر انتشارًا للشتات حول العالم من لندن.”
رؤية المكان والوظيفة
إبراز لا تُصمَّم فقط لتقديم الأعمال الفنية، بل لإعادة تعريف العلاقة بين الجمهور والمحتوى الثقافي. فهي تحاول أن تكون مساحة للتفاعل والتجربة، حيث يمكن للزائرين أن يشاركوا في حوارات فكرية، ويختبروا أفكارًا جديدة بعيدًا عن الترتيب التقليدي للمعارض.
تغذية الفكر والروح: رؤية مشروع «إبراز»
«تفضلوا بالدخول، أطعِموا بطونكم، أطعِموا عقولكم. ومع صعودكم في المبنى، أطعِموا أرواحكم.»
– حماد نصار
بهذه العبارة الرمزية، يقدّم حماد نصار، مدير البرامج والمحتوى، جوهر المشروع الذي يجمع بين الجسد والعقل والروح. فـ«إبراز» لا تسعى إلى أن تكون مجرد مؤسسة ثقافية، بل تجربة متكاملة تدعو الزائر إلى رحلة تصاعدية تبدأ من الملموس وتنتهي بالروحاني.
مفهوم الأغلبية العالمية
يصف نصار المشروع بأنه طموح وضروري في الوقت ذاته، موضحًا أن فكرة «الأغلبية العالمية» لا تتعلق بجغرافيا محددة أو بهوية ثابتة، بل هي رؤية مفتوحة تربط بين الثقافات. هذا الانفتاح يشكّل القلب النابض لإبراز، حيث لا توجد حدود صارمة بين الفنون أو بين المجتمعات.
مؤسسة تتطور مع جمهورها
بدلاً من الاعتماد على معارض ثابتة أو برامج جامدة، يتطور مشروع إبراز بشكل تدريجي ومرن، إذ تظهر الأفكار والمساحات والجمهور مع مرور الوقت. تصف المؤسسة هذا التوجه بأنه «كونية من الاهتمامات والجمهور»، أي مساحة تتشكل وفق تنوع من يشاركونها التجربة.
العمارة كترجمة للفكر
المبنى نفسه يجسد هذه الفلسفة. فقد أعادت المهندسة سمية والي من استوديو Counterspace تصميمه بدعم من جيمس بيل من MSMR Architects، ليصبح تجسيدًا ماديًا لفكرة الضيافة الثقافية. يمتد عبر ستة طوابق، تحمل كل مساحة فيها اسمًا مستوحًى من أنماط مجتمعية أفريقية وعربية، مما يعكس ارتباط المشروع بالتراثين معًا.
فضاءات تعزز التفاعل
على مستوى الشارع، تستقبل الزوار مكتبة «المكتبة» ومقهى يفتح أبوابه للمدينة، في دعوة مفتوحة للحوار والالتقاء. في الداخل، تحتضن قاعة المجلس المعارض والنقاشات، بينما يتيح فضاء مناسة في الطابق السفلي عروضًا سينمائية وأداءات حية. أما مكتبة «اقرأ»، فتشكّل ركنًا هادئًا للتأمل والقراءة، تجسيدًا لفكرة «إطعام الروح» التي تحدث عنها نصار.

نموذج الإقامة: جوهر الرؤية الفكرية
يشكّل نموذج الإقامة محور الرؤية التي تنطلق منها مؤسسة إبراز. فبحسب المؤسسة المؤسسة لينا لازار،
«مفهوم الإقامة هو أمر نهتم به حقًا. الفكرة هنا أن السحر يمكن أن يحدث عندما تتخلى عن السلطة للأشخاص الذين تثق بهم، والذين تريد خبرتهم ورؤيتهم إلى جانبك».
تعبّر لازار هنا عن فلسفة تقوم على المشاركة والثقة، حيث لا يُنظر إلى المؤسسة كمركز سلطة معرفية، بل كمجال مفتوح للتعاون بين المبدعين والمفكرين من مختلف التوجهات.
الفن كوسيلة لإحياء التاريخ
ضمن برنامج الافتتاح، يقدّم الفنان الغاني إبراهيم مهاما عمله التركيبي «برلمان الأشباح»، الذي يحوّل قاعة المجلس إلى فضاء يعيد التفكير في الذاكرة المادية للتاريخ.
يتكوّن العمل من أثاث يعود إلى الحقبة الاستعمارية وأكياس من الجوت جُمعت خلال فترة جائحة كوفيد، في تفاعل بصري وفكري يسائل فكرة الإصلاح وإعادة الحياة إلى الأشياء المنسية.
يقول مهاما:
«ما يثير اهتمامي أكثر هو سؤال الإصلاح: كيف نعيد الأشياء إلى الحياة، وكيف نستخرج التاريخ من خلال الأشكال المادية؟»
من خلال هذا الطرح، يصبح الفن أداة لاستحضار الذاكرة الجماعية وإعادة صياغة العلاقة بين الماضي والحاضر.
المعرفة كأرشيف حي
في طابق آخر، تتجسد روح البحث والتجريب من خلال مكتبة الإقامة التابعة لمجموعة أوتوليث، التي تحوّل عقودًا من البحث في الفن والسياسة والتاريخ إلى أرشيف حي يتفاعل مع الزوار. يضم هذا الأرشيف كتبًا وأفلامًا وخرائط تُقدَّم بطريقة تسمح بتوليد حوارات جديدة حول الذاكرة المعرفية المشتركة.
الأدب والمجتمع في تفاعل دائم
أما مكتبة الكتب في الإقامة، التي ينظمها مهرجان فلسطين للأدب بالتعاون مع Burley Fisher Books، فتركّز على الأدب النقدي العالمي، وتضع الكتابة كأداة لفهم الذات والعالم. هذه المبادرة تجعل من القراءة تجربة جماعية تتجاوز حدود اللغات والهويات.
المقهى كفضاء ثقافي حي
على مستوى أكثر حسيّة، يحتفي مقهى أولى بقيادة الشيف بثينة بن سالم بالتقاليد الطهوية التونسية، حيث يتحوّل الطعام إلى لغة سردية تحكي قصص الذاكرة والانتماء. فالمذاق هنا ليس مجرد تجربة ذوقية، بل وسيلة للتواصل الثقافي بين الزوار.
الحوار والموسيقى كامتداد للتجربة
ويضيف الكاتب والناقد الثقافي شومون باسار بعدًا فكريًا من خلال سلسلة من المحاضرات والحوارات العامة، تشكّل خيطًا يربط بين مختلف مكوّنات المشروع. في المقابل، يقود القيّم إيبيد بوجلاب برنامجًا متطورًا للموسيقى والصوت، يقدّم من خلاله تجربة سمعية تعكس روح التجريب والانفتاح التي تقوم عليها إبراز.

نحو رحلة تجمع بين الجغرافيا والفكر
بالنسبة إلى لينا لازار، لا تقوم «إبراز» على تقديم محتوى منفصل أو حدث عابر، بل على نسج رحلة متكاملة تربط بين جغرافيات وثقافات ووسائط متعددة. تقول:
«أنت لا تأتي إلى هنا من أجل محتوى واحد فقط. بل تحاول نسج رحلة تربط بين جغرافيات مختلفة، عبر محتوى ووسائط متنوعة. نحن حقًا نريد أن تكون هذه مؤسسة مفتوحة، تتعاون مع منظمات تشاركنا الرؤية وتخلق مساحات كافية للآخرين للانضمام إلينا».
ويضيف حماد نصار أن نموذج الإقامة في إبراز يتيح تطور التفاعلات بصورة تراكمية، ما يخلق نوعًا من الحوار المستمر بين الزوار والمشاركين، ويعمّق الانخراط مع مرور الوقت.
الذهاب إلى حيث لا يذهب الآخرون
في مدينة تزخر بالمؤسسات الثقافية، لا تسعى إبراز إلى التكرار أو المنافسة، بل إلى الذهاب حيث لا يستطيع الآخرون أو لا يرغبون في الذهاب.
فهي تفتح مساحة للحوار الصعب، وتُعطي مكانًا للأسئلة التي غالبًا ما تُهمَل، مع التمسك بقيم السخاء والضيافة كركائز أساسية.
تقول لازار:
«نهتم بأن يكون هذا المكان تجمعًا للتجمعات. فكرة الضيافة هذه، لا نقولها باستخفاف. إنها قيمة جوهرية نريد تجسيدها».
وعد بمستقبل ثقافي جديد
مع افتتاحه في أكتوبر، يُقدَّم المشروع كتجربة جريئة في الجمع والتواصل والتعاون، لكنه في الوقت نفسه يلمّح إلى آفاق تتجاوز جدرانه.
تتأمل لازار هذه المرحلة بقولها:
«أنا متحمسة للحظة التي لم تعد فيها ملكنا وحدنا، بل أصبحت للجميع».
في هذا التصور تكمن الروح الحقيقية لإبراز: الإيمان بأن التجمع وطرح الأسئلة والتخيل المشترك يمكن أن يُنتج أشكالًا ثقافية جديدة ويقود إلى مستقبل أكثر انفتاحًا وإنسانية.
✦ تحليل ArchUp التحريري
بينما يظهر مشروع «إبراز» طموحًا واضحًا في إعادة تعريف التجربة الثقافية وابتكار مساحات للتفاعل بين الفكر والفن والضيافة، إلا أن بعض التحديات تظل حاضرة. الإيجابيات تتجلى في القدرة على تقديم تجربة متعددة الطبقات، ومساحات محفزة للتفكير، وإبراز أهمية الحوار بين الثقافات، مما يمنح الزائر شعورًا بالانخراط والفضول. من ناحية أخرى، قد يشعر بعض الزوار أن التوسع الكبير في المفاهيم والمشاريع المتزامنة يجعل من الصعب متابعة كافة عناصر التجربة بشكل كامل، كما أن الطبيعة غير التقليدية للمكان قد لا تكون مريحة لجميع الفئات، خصوصًا أولئك المعتادين على المعارض أو الفعاليات المنظمة بشكل تقليدي. علاوة على ذلك، يتطلب النجاح المستمر للمشروع مستوى عاليًا من التنسيق بين مختلف البرامج والمساهمين، وهو ما يمثل تحديًا في الفضاء الديناميكي الذي يعتمد على التطور التدريجي. في المجمل، «إبراز» تقدم وعدًا ثقافيًا مثيرًا، لكنها تظل تجربة تحتاج إلى مزيد من الوقت لترسيخ هويتها وإثبات فعاليتها لكل جمهور محتمل.
قُدم لكم بكل حب وإخلاص من فريق ArchUp
لا تفوّت فرصة استكشاف المزيد من أخبار معمارية في مجالات الفعاليات المعمارية، و التصميم، عبر موقع ArchUp.