مشروع جناح الانغماس في الأمازون يعيد قراءة العلاقة بين العمارة والبيئة الطبيعية
مقدمة: عمارة تنصت للطبيعة
مع تسارع التكنولوجيا وابتعاد الحياة اليومية تدريجيًا عن البيئة الطبيعية، تبرز الحاجة إلى نقاط هدوء تعيد الإنسان إلى جذوره. وفي هذا السياق، يأتي مفهوم جناح الانغماس في الأمازون ليقدّم مساحة مبنية على الحضور والجو والاحترام البيئي.
فكرة المشروع وموقعه
يُطرح الجناح كمشروع تصوري لمدينة إيكيتوس في بيرو، وهي منطقة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالغابات المطيرة. وبدلًا من تقديم هيكل تقليدي، يقترح المشروع تدخّلًا معماريًا خفيفًا يُمكّن الزوار من الاقتراب من بيئة الأمازون دون التأثير عليها بشكل مباشر.
تجربة حسية متعددة الأبعاد
لتحقيق هذا الهدف، يعتمد الجناح على عناصر حسية تشمل:
- الصوت عبر تناغم الضوضاء الطبيعية.
- الملمس من خلال ممرات ومواد تُحاكي الجو العام للغابة.
- الضوء الذي يتغير مع حركة الشمس والظلال.
- الحركة التي يشعر بها الزائر أثناء سيره عبر المساحة.
وبهذا الأسلوب، لا يتعامل المشروع مع الأمازون كخلفية صامتة، بل كشريك حيّ يستجيب ويتفاعل.
الانسجام مع المشهد الطبيعي
يرتكز التصميم على فكرة أن العمارة يمكن أن تُعزز الوعي عندما تنسجم مع إيقاعات البيئة. ومن خلال دمج الشكل والمواد والذكاء البيئي، يسعى الجناح إلى خلق مساحة “تستمع” للطبيعة وتستجيب لها، مما يدفع الزوار لإعادة التفكير في علاقتهم مع العالم الطبيعي.
بداية الفكرة: حوار متبادل بين الإنسان والغابة
انطلق المشروع من رغبة في خلق علاقة أعمق بين الزائر وبيئة الأمازون. فهذه الغابة ليست مجرد مساحة طبيعية، بل منظومة نابضة بالصوت والحركة. ومن هنا، سعى فريق التصميم إلى تطوير هيكل يكشف خصائص الطبيعة بدلًا من منافستها أو طمسها.
الاعتماد على المحاكاة الحيوية والمواد المستدامة
اعتمدت الفكرة على مقاربة مستوحاة من المحاكاة الحيوية، ما أدى إلى ظهور شكل عضوي يتجاوب مع البيئة المحيطة. وتم اختيار الخيزران كمادة بناء رئيسية نظرًا لقوته ومرونته، إضافة إلى جذوره العميقة في تقاليد البناء المحلية. ويساهم استخدامه في تقليل الأثر البيئي وتعزيز مفهوم البناء المسؤول.
تجربة حسية عبر مستويين
الطابق الأول: مساحة للتأمل والهدوء
يوفّر الطابق الأول أجواءً هادئة تعزز من حضور الزائر داخل المكان. ويعتمد التصميم على قاعدة دائرية يبلغ قطرها 31,500 مم، مما يشكل منصة ثابتة للهيكل بأكمله.
الضوء والماء والنباتات: عناصر تخلق المشهد العام
- يضمّ الحجم شبه المغلق فتحة علوية تسمح بمرور الضوء الطبيعي، ليعمل كإضاءة موجهة تتغير مع حركة الشمس.
- كما تنساب طبقة رقيقة من الماء على الجدران، لتولّد مشهدًا صوتيًا يشبه خرير شلال صغير.
- وتُسهم النباتات الكثيفة في دمج الحدود بين العمارة والطبيعة، بحيث يصبح الفراغ أشبه ببيئة عضوية متواصلة.
تجربة غامرة تجمع الحواس
من خلال تفاعل الرطوبة والروائح الطبيعية والأصوات المتناغمة، يشعر الزائر وكأنه داخل شرنقة حسية تُقدّم قراءة مختلفة للغابة، قراءة قريبة وهادئة وغير متكلّفة.
الطابق الثاني: انفتاح تدريجي على المشهد الطبيعي
مع صعود الزوار إلى الطابق الثاني، تبدأ أجواء المكان في التحوّل تدريجيًا. فبعد المساحة الهادئة والمنغلقة في الأسفل، تنفتح العمارة هنا نحو الخارج، كاشفةً إطلالة واسعة تمتد إلى نهر الأمازون حتى خط الأفق. ويسمح هذا الانفتاح بتراجع دور البناء لصالح حضور الطبيعة نفسها.
إحساس الارتفاع والتنفس الحر
يعتمد هذا الجزء من الهيكل على حجم رئيسي يبلغ قطره 17,000 مم وارتفاعه 14,000 مم، ما يعزز الإحساس بالعلو داخل مظلة الغابة. ويسهم الشكل العام في:
- تحسين التهوية الطبيعية.
- تعزيز شعور الزائر بالارتفاع والانتماء إلى محيط أكبر.
وينتج عن الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح مسار عاطفي تدريجي: تماسك → توسّع → اتصال متجدد مع البيئة الطبيعية.
الاستدامة كعنصر موجه للتصميم
تُعدّ الاستدامة محورًا رئيسيًا وراء كل قرار تصميمي، ليس باعتبارها إضافة تجميلية، بل كجزء أصيل من هوية الجناح.
تصميم مستوحى من الطبيعة
يرتكز المشروع على نهج المحاكاة الحيوية (Biomimicry), حيث يُستوحى الشكل من:
- أنماط النمو الطبيعي للأشجار.
- حركة النهر الانسيابية.
- ديناميكيات الغابة التي تتغير باستمرار.
الخيزران كخيار واعٍ بيئيًا
يسهم استخدام الخيزران في:
- تقليل البصمة الكربونية.
- تدعيم ثقافة البناء المحلية.
- توفير مادة قوية وخفيفة ومرنة في آنٍ واحد.
أنظمة ذكية منخفضة التأثير
يعتمد الجناح على مجموعة من الاستراتيجيات البيئية، من بينها:
- التهوية السلبية التي تعمل بتناغم مع النسيم الطبيعي للغابة.
- توجيه مدروس للضوء الطبيعي يقلل الحاجة إلى الإضاءة الاصطناعية.
- تقنيات تجميع منخفضة الأثر تساعد في حماية أرضية الغابة الحساسة.
ومن خلال هذه المنظومة المتكاملة، يصبح الجناح عنصرًا متجاوبًا مع المشهد الطبيعي, يعمل بتناغم مع إيقاعات الغابة لا ضدها.
مرجعيات معرفية خلف المشروع
يستند المشروع إلى مجموعة واسعة من الأبحاث التي تجمع بين التصميم البيئي ومعرفة البناء التقليدي لدى المجتمعات الأصلية، إضافة إلى دراسات حول السلوك الحسي وإيكولوجيا الأمازون.
ولتحقيق فهم أعمق، اعتمدت منهجية العمل على:
- دراسة ببليوغرافية شاملة.
- تقييم الأثر البيئي للموقع والمحيط.
- تحليل السياق الاجتماعي لمدينة إيكيتوس.
من خلال هذه العناصر، كان الهدف تطوير تجربة معمارية تُسهم في تعزيز الفهم البيئي وترسيخ إحساس أعمق بالوعي الإيكولوجي لدى الزائر.
العمل في بيئات طبيعية نائية: تحديات التصميم
على الرغم من أن الجناح ما يزال مشروعًا افتراضيًا، فإن عملية تطويره سلطت الضوء على مجموعة من التحديات التي ترافق العمل في بيئات طبيعية بعيدة.
حدود المواد وأساليب البناء
- محدودية الخيزران في البحور الواسعة وقدرته على تحقيق الامتدادات المطلوبة.
- صعوبة نقل المواد المستدامة دون التأثير على البيئة المحيطة.
- ضرورة استخدام تقنيات بناء تتوافق مع دورات الطبيعة بدلًا من فرض أنظمة خارجية عليها.
ابتكار تجربة حسية ضمن قيود واقعية
- احترام البيئة.
- الحفاظ على استدامة المواد.
- ضمان جودة التجربة الحسية الداخلية.
هذا التوازن بين الخيال التصميمي والقيود البيئية واللوجستية شكّل جزءًا أساسيًا من التحدي، وأبرز أهمية التكيّف في العمارة الموجهة للطبيعة.
✦ تحليل ArchUp التحريري
يمكن النظر إلى مشروع جناح الانغماس في الأمازون كتمرين معماري مثير للاهتمام في دمج العمارة مع البيئة الطبيعية. من الإيجابيات، يقدّم المشروع فكرة واضحة حول التجربة الحسية متعددة المستويات واستخدام مواد مستدامة مثل الخيزران، وهو ما يعكس اهتمامًا بالبيئة واستلهامًا من الأنظمة الطبيعية. كما أن مفهوم الانفتاح التدريجي والانسجام مع إيقاعات الطبيعة يمكن أن يكون مصدر إلهام لـ المشاريع المستقبلية التي تسعى لتقليل الفجوة بين الإنسان والبيئة المحيطة.
في المقابل، يبرز عدد من التحفظات المرتبطة بعمليّة التطبيق الواقعية. فالمشروع ما زال تصوريًا، وقد تكون قيود المواد وخصوصًا استخدام الخيزران في الامتدادات الكبيرة تحديًا حقيقيًا عند التنفيذ. كما أن النقل والبناء في بيئة نائية قد يفرض قيودًا لوجستية ومالية غير بسيطة، بينما التحكم الدقيق في الإضاءة، الصوت، والرطوبة يتطلب تقنيات متقدمة قد لا تكون متاحة بسهولة. علاوة على ذلك، يشير النهج التجريبي إلى أن تجربة الزوار قد تختلف تبعًا للعوامل البيئية اليومية، ما يجعل المحافظة على التجربة الحسية الموحدة أمرًا صعبًا.
وبالرغم من هذه القيود، يمكن الاستفادة من المشروع في المجال المعماري كـ دراسة حالة لفهم العلاقة بين العمارة والبيئة، خاصة فيما يتعلق بـ التصميم المستدام، المحاكاة الحيوية، وابتكار مسارات حسية داخل الفضاءات الطبيعية. كما يمكن توظيف المبادئ التي اعتمدها المشروع في تصميم مرافق سياحية أو تعليمية بيئية، حيث تُقدّم التجربة الحسية بطريقة قابلة للتكيف مع ظروف الموقع الفعلية.
