مشروع في سان سيباستيان يستكشف العلاقة بين العمارة وعلوم الطهي
مركز أبحاث جديد يعيد تعريف مستقبل فنون الطهي
في مدينة سان سيباستيان الإسبانية، شهد العالم افتتاح مركز أبحاث جديد تابع لـ Basque Culinary Center، المؤسسة الأكاديمية الرائدة في مجال علوم الطهي والابتكار الغذائي.
بنية معمارية تجمع بين العلم والإبداع
يقع المركز داخل منشأة حديثة تمتد على مساحة 9,000 متر مربع، صمّمها فريق الهندسة المعمارية الشهير Bjarke Ingels Group (BIG). التصميم لا يهدف فقط إلى الجمال البصري، بل يعبّر عن فكرة الانفتاح والتفاعل بين مختلف مجالات المعرفة المرتبطة بعالم الغذاء.
مفهوم “النظام البيئي المفتوح”
يحمل المبنى اسم Gastronomy Open Ecosystem، وهو مفهوم يجسد روح التعاون بين الباحثين، الطهاة، والمجتمع. فإلى جانب المختبرات المخصّصة لأحدث أبحاث علوم الغذاء، يضمّ المبنى أيضًا مساحات مفتوحة للجمهور، مما يتيح تبادل الأفكار والتجارب في بيئة تفاعلية فريدة.
رؤية جديدة لعلم الطعام
يهدف المركز إلى بناء جسر بين المعرفة الأكاديمية والممارسات اليومية في عالم الطهي، من خلال تطوير أساليب جديدة لفهم العلاقة بين الإنسان والطعام، وتعزيز الابتكار في هذا المجال الذي يجمع بين الثقافة، العلم، والفن.
مركز الباسك لفنون الطهي: من التقاليد إلى الابتكار
يُعد مركز الباسك لفنون الطهي (Basque Culinary Center) أحد أبرز المؤسسات الأكاديمية في أوروبا المتخصصة في تعليم وتطوير فنون المأكولات الراقية. فمنذ تأسيسه عام 2011 على أطراف مدينة سان سيباستيان، ساهم في تخريج جيل من الطهاة الذين جمعوا بين المهارة التقنية والرؤية الإبداعية في عالم الطهي.
توسّع جديد في قلب حي غروس
مع مرور أكثر من عقد على انطلاقته، دشّن المركز مشروعًا بحثيًا ومعماريًا جديدًا بلغت تكلفته نحو 26 مليون يورو. يقع المشروع في حي غروس (Gros) الحيوي، ليعكس روح المدينة النابضة بالحياة والتنوع الثقافي الذي يميزها.
لغة معمارية مستوحاة من الطبيعة
يتميّز تصميم المبنى بهيكل متدرّج يستوحي إلهامه من الأمواج المتلاطمة على سواحل إقليم الباسك، في إشارة إلى علاقة الإنسان بالبحر والطبيعة. كما يرمز في الوقت ذاته إلى جبل أوليا (Mount Ulía) الذي يشكّل خلفية طبيعية للموقع، ما يربط المشروع بعناصر المكان بصريًا ووجدانيًا.
لقاء بين المدينة والثقافة والطبيعة
يرى المعماري بياركه إنغلز (Bjarke Ingels)، الذي زار سان سيباستيان لأول مرة أثناء دراسته في برشلونة، أن هذا الموقع يمثل أكثر من مجرد مساحة عمرانية.
“إنه مكان تلتقي فيه المدينة بالجبل، وبالتالي هو نقطة التقاء للتخصصات والثقافات.”
كلماته تعبّر عن جوهر المشروع: مساحة تُوحِّد بين العلم، الفن، والبيئة في تجربة معمارية وإنسانية واحدة.

تصميم داخلي يجمع بين المرونة والشفافية
هيكل طوابق متعددة الاستخدامات
يتألف المبنى من خمسة طوابق، صُممت مساحاته الداخلية بمرونة عالية لتلبية احتياجات متعددة، سواء للعمل، التعلم، أو الأنشطة الترفيهية. هذا التنوع في الاستخدام يعكس رؤية معماريّة قائمة على التفاعل بين الإنسان والمكان.
الألوان كعنصر توجيهي
تم تمييز كل طابق بدرجات مختلفة من اللون الوردي، مستوحاة من مستويات نضج اللحوم: نصف استواء، متوسط، ومستوي بالكامل. هذه الدرجات لا تُضيف بعدًا جماليًا فحسب، بل تعمل أيضًا كمرشد بصري للمستخدمين داخل المبنى، ما يعزز فهمهم لتوزيع المساحات ووظائفها.
الشفافية كجسر بين الداخل والخارج
تشكّل الجدران الزجاجية الداخلية ما وصفه إنغلز بـ «الفترينات»، والتي تضم مختبرات، فصولًا دراسية، وورش عمل. في الوقت نفسه، تسمح الواجهة الزجاجية الخارجية للمارة بمشاهدة النشاطات داخل المبنى، ما يخلق تفاعلًا بصريًا وتواصليًا بين المركز والمدينة المحيطة.

تفاعل المبنى مع البيئة المحيطة
مساحات مفتوحة وممرات خضراء
تتوزع الممرات العامة والمساحات الخضراء حول المبنى وفوقه، ما يخلق تواصلًا بصريًا وانسيابية مع البيئة المحيطة. هذه التوزيعات تعزز شعور الزوار بالانفتاح وتسمح بتجربة المكان بطريقة أكثر طبيعية ومريحة.
مدرّج خارجي وحدائق على السطح
في الجهة الخلفية للمبنى، يوجد مدرّج خارجي يتيح استضافة الفعاليات التعليمية أو التفاعلية. أما الحدائق الموجودة على السطح، فهي توفر إطلالة خلابة على شاطئ زورريولا (Zurriola) الشهير بين راكبي الأمواج، ما يعزز العلاقة بين المبنى والطبيعة البحرية المحيطة.
موقع استراتيجي على طريق الحج
يقع المعهد أيضًا على طريق الحج “كامينو دي سانتياغو” (Camino de Santiago)، الذي يمتد عبر شمال إسبانيا. هذا الموقع يمنح الحجاج معلمًا معماريًا مميزًا يمكنهم تأمله أثناء رحلتهم، ما يضيف بعدًا ثقافيًا وتاريخيًا لتجربة زيارة المركز.

العمارة كإيحاء بالحركة
تصميم يدمج الديناميكية مع العقلانية
يتميّز المبنى بتصميمه الذي يأخذ هيئة موجة مائية متحركة، رغم عدم وجود أي خطوط منحنية في هيكله الإنشائي. يوضح المعماري بياركه إنغلز (Bjarke Ingels):
“كل شيء هنا مصنوع من عناصر تركيبية معيارية. هناك طابع سيمفوني في اجتماع هذه العناصر العقلانية معًا لتكوين وهم الموجة.”
يعكس هذا التوازن بين الشكل الوهمي والهيكل الصلب القدرة على دمج الجمال البصري مع المنطق الهندسي الصارم.
دور الحاجب الشمسي في تعزيز الحركة والوظيفة
يضيف الحاجب الشمسي (brise-soleil) بعدًا إضافيًا من الحركة والديناميكية إلى واجهة المبنى، بينما يؤدي في الوقت ذاته وظيفة عملية مهمة، إذ يعمل على تظليل المساحات الداخلية وتقليل التأثير المباشر لأشعة الشمس، وفقًا لما أوضحه المعماري في شركة BIG، جواو ألبوكيرك (João Albuquerque).
هذا الاستخدام الذكي للعناصر المعمارية يجمع بين الجماليات الديناميكية والوظائف العملية، ما يعكس فلسفة التصميم الحديثة في هذا المشروع.

استخدام المواد كعنصر تعبيري
الفولاذ المقاوم للعوامل الجوية وإيحاء النحت
يُغطّى المبنى، الذي يتميز باللون الأحمر الصدئ، بطبقة من الفولاذ المقاوم للعوامل الجوية. هذا الاختيار لا يقتصر على الجانب الجمالي أو العملي، بل يحمل إشارة واضحة إلى الأعمال النحتية الضخمة للنحات الباسكي الراحل إدواردو تشيليدا (Eduardo Chillida)، صاحب المتحف المفتوح في بلدة هيرناني القريبة.
المزج بين الثقل الصناعي والديناميكية
يشير المعماري بياركه إنغلز (Bjarke Ingels) إلى أنه انجذب إلى غنى المعدن، ثقله، وطابعه الصناعي القوي. كما استلهم تصميم الوحدات الديناميكية من ما وصفه بـ «الهندسة المستطيلة المنحنية برفق» التي ميّزت أعمال تشيليدا، ما يعكس التقاطع بين الفن، الهندسة، والعمارة المعاصرة.

البساطة كعنصر أساسي
يشدد المعماري بياركه إنغلز (Bjarke Ingels) على أن البساطة تُعد عنصرًا جوهريًا ليس فقط في العمارة، بل أيضًا في فنون الطهي. يوضح قائلاً:
“الأمر يشبه إعداد طبق باستخدام أبسط المكونات، لكن سحر المطبخ هو ما يجعل النتيجة مذهلة حقًا.”
هذا التصور يبرز التوازي بين العملية الإبداعية في الهندسة المعمارية وفنون الطهي، حيث أن الأفكار البسيطة والمتقنة يمكن أن تنتج تجربة غنية ومؤثرة، سواء في تصميم المباني أو في إعداد الأطباق.
✦ تحليل ArchUp التحريري
يمكن النظر إلى هذا المشروع باعتباره نموذجًا معاصرًا لتكامل العمارة والبحث الأكاديمي في علوم الطهي، حيث يقدم مساحات مرنة تسمح بالتفاعل بين المستخدمين والبيئة، ويستفيد من الشفافية والواجهات الزجاجية لإضفاء بعد بصري وتواصلي. كما أن استخدام المواد مثل الفولاذ المقاوم للعوامل الجوية يعكس قدرة التصميم على الارتباط بالبيئة المحلية والفن المعاصر، مع الاحتفاظ بمفهوم ديناميكية الحركة في المبنى.
من ناحية أخرى، يطرح المشروع بعض التساؤلات المتعلقة بـ الاستدامة طويلة المدى والفعالية التشغيلية، لا سيما فيما يخص صيانة المساحات المفتوحة الكبيرة والواجهات الزجاجية، وتأثيرها على استهلاك الطاقة. كذلك، يمكن أن يمثل الحجم الكبير للمبنى والتصميم المبتكر تحديًا من حيث إمكانية إعادة تكييفه مستقبليًا أو توسيع استخداماته لمجالات أخرى دون التأثير على الهوية المعمارية للمكان.
بالنظر إلى هذه الجوانب، يمكن أن يكون المشروع مصدرًا غنيًا للدراسة المعمارية، خصوصًا فيما يتعلق بتصميم المباني متعددة الاستخدامات التي توازن بين الشكل والوظيفة، ويتيح للممارسين والطلاب استلهام الأفكار حول دمج البحث العلمي، الثقافة، والبيئة العمرانية في تجربة واحدة متكاملة.
قُدم لكم بكل حب وإخلاص من فريق ArchUp
لا تفوّت فرصة استكشاف المزيد من أخبار معمارية في مجالات الفعاليات المعمارية، و التصميم، عبر موقع ArchUp.