من قلب كوبنهاغن إلى أحضان الطبيعة: رحلة المتحف الوطني الدنماركي بين فن المدينة وفن الريف
المبنى الرئيسي للمتحف الوطني الدنماركي
يُعد المبنى الرئيسي للمتحف الوطني في كوبنهاغن واحدًا من أبرز المعالم الثقافية في العاصمة الدنماركية. يعود تاريخ إنشائه إلى أواخر القرن التاسع عشر، ما يجعله شاهدًا حيًا على ملامح الحقبة التاريخية التي شهدتها المدينة في ذلك الوقت.
بصمة المعماري فيلهلم داهلروب
صُمم المبنى على يد المعماري الدنماركي فيلهلم داهلروب، بمساعدة تقنية من جورج إي. دبليو. مولر. ويُعرف داهلروب بأنه أحد الأسماء البارزة في المشهد المعماري لكوبنهاغن؛ فقد ارتبط اسمه بعدد من المعالم الشهيرة مثل:
- بوابة الفيل في كارلسبرغ
- متحف غليبتوتيكيت
- فندق دانغلتر
رحلاته المتعددة في أنحاء أوروبا أثرت بشكل واضح في رؤيته الجمالية وأسهمت في صياغة هوية معمارية مميزة للمدينة خلال القرن التاسع عشر.
أسلوب مستوحى من عصر النهضة
استلهم داهلروب تصميم المتحف من النهضة الإيطالية، وهي من الفترات التي شغف بها بشكل خاص. ويظهر ذلك في مزيج التناسق والضخامة الذي يميز واجهات المبنى وزخارفه.
مواد أصيلة وواجهة مهيبة
على عكس بعض أعماله الأخرى التي استخدم فيها الخرسانة أو المواد المقلدة، أصرّ داهلروب هنا على توظيف خامات طبيعية مثل الرخام والحجر الجيري والطوب. والنتيجة كانت مبنىً يحمل طابعًا أصيلًا، يبهج العين بجماله الخارجي حتى قبل الدخول إلى قاعاته الداخلية المليئة بروائع الفن.
المواد كمفتاح للهوية المعمارية
يلعب اختيار المواد دورًا جوهريًا في صياغة الطابع المعماري للفرع الجديد من متحف SMK، المقرر افتتاحه في 29 أغسطس 2025 بقرية صغيرة تُدعى دوفروده، بالقرب من متنزه “ثاي” الطبيعي في شمال شبه جزيرة يوتلاند.
رؤية المعماري رايولف رامستاد
المشروع جاء بتوقيع المعماري رايولف رامستاد، الذي فاز بتكليف التصميم عام 2021. يوضح رامستاد فلسفته المعمارية قائلًا:
“بدلًا من البناء من العدم، اعتمدنا على ما كان موجودًا بالفعل ، الحجر، الخشب، الصمت، والريح”.
هذا التوجه يعكس احترام البيئة المحلية وتكامل المبنى الجديد مع عناصر الطبيعة والمكان.
دعم مالي لتحقيق الحلم
فكرة التوسع لم تكن وليدة اللحظة؛ فقد رافقت إدارة المتحف رغبة طويلة بفتح فرع خارج كوبنهاغن. وقد تحقق ذلك بفضل تبرع سخي من مؤسسة أي. بي. مولر وتشاستين ماكيني مولر، الذي منح المشروع دفعة قوية نحو التنفيذ.
ماضي الموقع وتحوّلاته
الموقع المختار لم يكن أرضًا فارغة، بل ضمّ خليطًا من المباني القديمة والمتنوعة، منها:
- مزرعة تاريخية تعود إلى عام 1852
- مستودع ضخم من الطوب شُيّد عام 1854
- صومعة حبوب شاهقة بارتفاع 42 مترًا بُنيت عام 1962
- مجموعة منشآت أخرى في مراحل مختلفة من التدهور
هذا التنوع في الخلفية العمرانية أضاف طبقة من العمق التاريخي للمشروع، مما جعل عملية التصميم أقرب إلى إعادة إحياء المكان بدلًا من محوه.

إعادة إحياء المباني القديمة
تم ترميم المزرعة التاريخية بعناية كبيرة، لتصبح اليوم مقرًا يضم:
- مقهى المتحف
- مكاتب الإدارة
- شقتين لإقامة الفنانين والباحثين
أما الصومعة التي بُنيت عام 1962، فقد تحوّلت إلى معلم بصري جديد؛ أُعيد طلاؤها وزُوّدت بمدخل كبير من فولاذ كورتن، لتعمل كمنصة مشاهدة تطل على المشهد الطبيعي المحيط. إلى جانب ذلك، أصبحت الصومعة أيضًا مساحة عرض تضم ثلاث قاعات صغيرة مخصصة للمعارض المؤقتة.
من المستودع إلى مبنى جديد
كان من المقرر أن يحتضن المستودع القديم المعرض الرئيسي للمتحف. غير أن الفحص الهندسي كشف أن بنيانه لم يكن ملائمًا للمعايير الصارمة المطلوبة لعرض أعمال فنية تغطي نحو سبعة قرون من تاريخ الفن الأوروبي.
لذلك جرى تفكيك المستودع بعناية، مع الحفاظ على طوبه الأصلي الذي أُعيد تنظيفه وإعادة توظيفه في واجهة المبنى الجديد. وقد جرى الالتزام بالمساحة والارتفاع نفسهما، مما أوجد صلة بصرية وتاريخية مع الماضي، مع تقديم مبنى حديث يلبي المتطلبات الفنية.
فلسفة التصميم
يشرح المعماري رايولف رامستاد رؤيته قائلًا:
“حين دُعيتُ للمشاركة في تصميم الفرع الجديد للمتحف الوطني، أدركت منذ البداية أن المشروع لا يتعلق بفرض شيء على المكان، بل بالاستجابة لما كان موجودًا أصلًا. كان الأمر يتعلق بصياغة مساحة يمكن فيها للفن والطبيعة، للثقافة والمجتمع، أن يتعايشوا لا فحسب، بل أن يعزز كل منهم الآخر”.
بهذا المعنى، يصبح المبنى الجديد ليس مجرد فضاء للعرض، بل جسرًا بين الذاكرة المحلية والفن العالمي، وبين الطبيعة والإنسان.

نحو تكامل الفن مع الطبيعة
لم يقتصر مشروع التجديد على المباني الداخلية فحسب، بل امتد ليشمل مرافق خارجية تُعزز تجربة الزوار في الهواء الطلق. فقد اقترح المعماريون إضافة:
- فندق صغير للقوارب (كاياك)
- ملاجئ حول مواقد النار
- حوض جاف مع ورشة لدعم رابطة السفن الفايكنغ العاملة بالفعل في الموقع
هذه المرافق تندرج ضمن مبادرة محلية تُعرف باسم “قرية الطبيعة“، وتهدف إلى خلق رابط مباشر بين الأنشطة الطبيعية والأنشطة الثقافية، بحيث يصبح الفن في SMK Thy امتدادًا للتجربة اليومية في المكان.
الطبيعة كجزء من الرسالة المتحفية
توضح أستريد لا كور، مديرة المتحف الوطني، هذه الفلسفة بقولها:
“نحن ندعو زوارنا ليكونوا حاضرين في العمل الفني، وفي العمارة، وفي الطبيعة. نريد أن نشجعهم على قضاء الوقت والانتباه. وعلى نطاق أوسع، أحرص على أن تلعب الطبيعة دورًا جوهريًا في عملنا في المستقبل”.
بين فن المدينة وفن الطبيعة
بهذا التوجه، يظهر فرع SMK Thy وكأنه خطوة مكمّلة للمبنى الرئيسي في كوبنهاغن. فإذا كان الفرع الأصلي قد جسّد فن المدينة الأوروبية في القرن التاسع عشر، فإن الفرع الجديد يمثل فن الطبيعة المفتوحة في القرن الحادي والعشرين. إنه انتقال من الفضاء الحضري إلى فضاء ريفي يتنفس الفن والطبيعة معًا، في حوار دائم بين الإنسان والبيئة.

بساطة ريفية بجودة عالية
تتميز المباني الجديدة المحيطة بالمزرعة التاريخية والمستودع المُعاد بناؤه بعمارة خشبية بسيطة وصادقة، تعكس أجواء قريبة من حياة القرية. وقد تُركت المواد والعناصر الإنشائية مكشوفة عمدًا، مثل:
- العوارض الخشبية الضخمة التي تحمل السقف
- ألواح خشب البلوط من دينيسن المستخدمة في كسوة الحوض الجاف
- الألواح الخام ذات الحواف الطبيعية التي غُلّفت بها مباني مواقد النار الصغيرة
هذا الكشف المتعمّد عن التفاصيل يتيح للزائر فرصة تأمل الحرفية وجودة التنفيذ بشكل مباشر.
فلسفة “الجودة بدلًا من الاستدامة”
يشرح المعماري رايولف رامستاد رؤيته قائلاً:
“أعتقد حقًا أنه كلما تحدثنا أكثر عن الاستدامة، أصبحت أقل استدامة. يجب أن نتحدث بدلًا من ذلك عن الجودة”.
هذا المبدأ يظهر جليًا في:
- إعادة استخدام المواد الأصلية وتوظيفها بعناية
- اختيار مواقع المباني الجديدة بدقة
- دمج تفاصيل معمارية توازن بين الأصالة والمعاصرة
فن في قلب “اللاشيء”
النهج المتّبع لا يقتصر على العمارة وحدها، بل يتجلى أيضًا في الفكرة الأساسية: جلب بعض من أثمن روائع الفن الدنماركي إلى مكان قد يُنظر إليه على أنه “منتصف اللاشيء“. وهكذا يتحوّل الموقع إلى مساحة يتلاقى فيها الفن والطبيعة والجودة الحرفية في تجربة واحدة متكاملة.

الفن يعود إلى موطنه الأول
رغم أن المشروع يمثل توسعًا عمرانيًا جديدًا، إلا أنه يحمل في جوهره لحظة عميقة المعنى وشبه شاعرية تعيد الأمور إلى نقطة البداية. فالكثير من الأعمال الفنية التي يضمها المتحف الوطني ، وتزيد على 200,000 قطعة ، تتمحور حول تصوير جمال الطبيعة. ومن بين هذه الأعمال، لوحات جسّدت المناظر الخلابة لمتنزه “ثاي” الوطني، الذي يحيط بالموقع الحالي للمتحف الجديد.
الآن، يعود جزء من هذا الفن إلى موطنه الأصلي، في تواصل مباشر بين اللوحة والمشهد الطبيعي الذي ألهمها منذ البداية.
حضور يتجاوز العاصمة
توضح أستريد لا كور، مديرة المتحف الوطني، هذه الرؤية بقولها:
“بصفتنا مؤسسة ثقافية وطنية، نطمح لأن نكون مؤثرين خارج العاصمة ، ليس بأن نصبح مؤسسة محلية، بل بأن نكون حاضرين ومنخرطين في الحياة المحلية”.
منارة ثقافية جديدة
كما تبرز الصومعة على الأفق من مسافات بعيدة، يُتوقع أن يصبح SMK Thy منارة ثقافية جديدة، تجمع بين الفن والطبيعة، وتمنح المنطقة هوية مميزة تربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
✦ تحليل ArchUp التحريري
يمثل مشروع فرع SMK Thy إضافة نوعية تجمع بين الفن والطبيعة في تجربة فريدة تعزز حضور المتحف خارج العاصمة، وتُعيد إحياء مبانٍ تاريخية بلمسة معمارية معاصرة تحترم البيئة المحلية. في الوقت نفسه، قد تطرح هذه الخطوة بعض التساؤلات حول مدى قدرة الموقع الريفي البعيد على استقطاب الزوار بشكل مستدام، وحول التوازن بين الحفاظ على الطابع المحلي وإدخال مبانٍ جديدة قد تغيّر من هوية المكان الأصلية. وبين هذه الإيجابيات والتحفظات، يظل المشروع تجربة ثقافية ومعمارية جديرة بالاهتمام، تحمل وعودًا كبيرة وتحديات واقعية في آن واحد.
قُدم لكم بكل حب وإخلاص من فريق ArchUp
لا تفوّت فرصة استكشاف المزيد من أخبار معمارية، والفعاليات المعمارية، ومشاريع معمارية عبر موقع ArchUp.