فن الآرت ديكو: تطور التصميم الداخلي والأثاث وتأثيره الصناعي والاجتماعي
قبل مئة عام: المعرض الدولي للفنون الزخرفية
قبل نحو قرن من الزمن، استضافت باريس “المعرض الدولي للفنون الزخرفية والصناعات الحديثة”، الذي أُقيم على مساحة 23 هكتارًا بين ساحة الكونكورد ومجمع الأنفاليد. جذب المعرض حينها نحو 15 مليون زائر، ما يعكس الاهتمام الكبير بالفنون والتصميم آنذاك. وتصف أمينة متحف الفنون الزخرفية، آن مونييه فانريب، هذا الحدث بأنه «ذروة حركة الآرت ديكو، وتكريسها الرسمي».
الاحتفال بالذكرى المئوية
لمواصلة إرث هذه الحركة الفنية، ينظم متحف الفنون الزخرفية في باريس معرضًا استعاديًا، يعرض خلاله مجموعة متنوعة من القطع المميزة، مثل الأثاث، وأدوات المائدة، والملابس، والمجوهرات، بالإضافة إلى أعمال فنية نادرة، لتسليط الضوء على تاريخ وآثار حركة الآرت ديكو.
1925: ميلاد فن الآرت ديكو
يُعتبر عام 1925 نقطة البداية الرسمية لظهور فن الآرت ديكو، الذي جمع بين الحداثة والذوق الرفيع في التصميم، مؤثرًا على المجالات المختلفة مثل الديكور، الأثاث، والأزياء، ليصبح علامة فارقة في تاريخ الفن الحديث.
جذور فكرة المعرض
في الواقع، وُلدت فكرة تنظيم معرض عام 1925 منذ عام 1911، كجهد لإعادة فرنسا إلى موقعها الرائد في مجال التصميم والفنون الزخرفية. جاء هذا الطموح في سياق منافسة دولية متنامية، حيث كانت حركتا باوهاوس في ألمانيا ودي ستايل في هولندا تتطوران بسرعة، مما جعل فرنسا تشعر بالحاجة إلى ترك بصمتها الفنية المميزة.
رؤية رينيه غييهريه
كتب رينيه غييهريه، رئيس جمعية الفنانين الزخرفيين، في عام 1915:
«على مدى قرون، فرضت فرنسا ذوقها على العالم، أما اليوم، فلم نعد ندرك أننا ما زلنا نحمل مجد ومواهب أسلافنا».
تعكس هذه الكلمات الحرص على استعادة مكانة فرنسا التاريخية في التصميم، وتجسيد إرثها الفني الغني بطريقة عصرية تتوافق مع متطلبات القرن العشرين.

فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كانت معظم الدول الأوروبية قد دُمّرت، بينما خرجت فرنسا بحالٍ أفضل نسبيًا. ومع امتلاكها لإمبراطورية ومستعمرات واسعة، استطاعت فرنسا تأمين المواد الخام الأساسية لتصميماتها، مما منحها ميزة واضحة على المستوى الدولي.
المواد الخام ودورها في التصميم
استُخدمت مواد فاخرة ومتنوعة في المعرض، أبرزها العاج، الذي وظفته الفنانة إوجيني أوكين بكثرة، بما في ذلك مزهرية عرضت في المعرض الأصلي وتُعرض الآن ضمن المعرض الاستعادي. كما كانت الأخشاب من بين الموارد المهمة، مستخدمة في تصميم قطع الأثاث المبتكرة.
أمثلة على القطع المميزة
من بين أبرز الأعمال المعروضة، كانت خزانة من تصميم موريس دوفرين، قدمت لأول مرة في المعرض، وتُظهر براعة التصميم الفرنسي في استخدام مواد فاخرة مثل خشب الأبنوس الأسود والأوكومي، ما يعكس المزج بين الجودة الفنية والوظيفية في فن الآرت ديكو.

الآرت ديكو وفكرة الفن الاجتماعي
بينما ركزت حركة باوهاوس على ابتكار أساليب حياة جديدة قابلة للتطبيق، سعى فن الآرت ديكو إلى إنشاء فن اجتماعي حقيقي يواكب تطور الصناعة ويعكس الاحتياجات اليومية للناس، بدلًا من الاكتفاء بكونه فنًا زخرفيًا بحتًا.
اتحاد الفنانين العصريين
تجلت هذه الرؤية في أهداف اتحاد الفنانين العصريين (Union des Artistes Modernes)، الذي ترأسه المعماري والمصمم روبرت ماله ستيفنز. تأسس الاتحاد بعد انفصال ماله ستيفنز عن جمعية الفنانين الزخرفيين، احتجاجًا على رفض الجمعية تخصيص مساحة عرض للمصممين الشباب، ومن بينهم ماله ستيفنز وبيير شارو.
دعم المواهب الشابة
هذا الانفصال يعكس أهمية تشجيع المواهب الجديدة وإتاحة الفرصة لها لعرض ابتكاراتها، مما ساهم لاحقًا في تطور فن الآرت ديكو وانتشاره بشكل أوسع، مع الحفاظ على دوره الاجتماعي والثقافي إلى جانب الجانب الجمالي.

انتشار الآرت ديكو في فرنسا
امتدت تأثيرات فن الآرت ديكو في مختلف أنحاء فرنسا، حيث اعتمدت المساكن الجديدة التي شُيدت بعد تطبيق قانون كورنوده الصادر عام 1919 على النقوش البارزة وتصاميم الطوب المزخرفة كعناصر جمالية تعزز المظهر العام للمباني. وقد ساهم ذلك في دمج الجماليات الفنية ضمن التخطيط العمراني الحديث بطريقة متناسقة وملموسة.
الانتشار الدولي والتكيف المحلي
خارج فرنسا، ساعد الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة على انتشار هذا الطراز داخل المنازل، مما جعله أكثر شيوعًا وقابلًا للوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع.
في المقابل، تبنى المصممون في البرازيل واليابان والسويد عناصر الآرت ديكو، مع تعديلها بما يتناسب مع الهويات الوطنية والثقافية الخاصة بكل دولة، ما أتاح له الانتشار العالمي مع الاحتفاظ بسماته المحلية الفريدة.

تأثير التطورات في وسائل النقل على الفن
شهدت فترة الآرت ديكو تطورات كبيرة في وسائل النقل، مستفيدة من الابتكارات العسكرية السابقة. فقد أصبح بإمكان الناس السفر عبر السفن، مما ساهم في نشوء مفهوم السياحة الحديثة كما نعرفها اليوم. في الوقت ذاته، بدأت الخطوط الجوية التجارية عملها، وإن كانت رحلاتها قصيرة وبطائرات أصغر، بينما ازدهر إنتاج السيارات بشكل واسع، ما انعكس على أسلوب الحياة والذوق الفني للمجتمع.
النقل كعنصر زخرفي
تجسدت هذه التطورات في الزخارف والرموز على قطع فن الآرت ديكو، حيث انعكست روح الحركة والحداثة في التصميمات. ومن أبرز الرموز في هذه الفترة كان تجديد قطار الشرق السريع (Orient Express)، الرابط بين باريس وإسطنبول، والذي أصبح رمزًا للفخامة والابتكار.
تصميم العربات وتجديدها
بعد توقف القطار خلال الحرب العالمية الأولى، استعانت شركة Compagnie Internationale des Wagons-Lits بعدد من كبار مصممي الآرت ديكو لتجديد عرباته، ومن بينهم رينيه لاليك وسوزان لاليك-هافيلاند ورينيه برو، ما أدى إلى دمج الفن الصناعي مع الرحلة نفسها، وجعل السفر تجربة جمالية متكاملة.

عربات الشرق السريع: تحف فنية متحركة
من أبرز معالم المعرض نسخ معاد إنتاجها من عربات قطار الشرق السريع القديمة، التي تبرز مدى ثراء الزخارف والتفاصيل في تصميمها. تعكس هذه العربات التفوق الفني والاهتمام بالمواد والجماليات، ما يجعلها مثالًا حيًا على روح فن الآرت ديكو.
زخارف فاخرة وتقنيات متقنة
تتزيّن العربات بـ تطعيمات خشبية فاخرة مصنوعة من أنواع نادرة مثل الماهوجني والخشب البنفسجي وخشب الورد والأبنوس. كما تضمنت ألواح زجاجية منقوشة وزخارف هندسية دقيقة، ما يعكس الجمع بين الفخامة والدقة الهندسية، ويجسد الطابع الاجتماعي والجمالي للحركة الفنية في أبهى صورها.

تكريم كبار المصممين
يضم المعرض أقسامًا مخصصة للمصممين إيلين غراي وجان ميشيل فرانك، بالإضافة إلى مكتب ومكتبة تخيّلية صمّمها بيير شارو للسفير الفرنسي، والتي أُنشئت خصيصًا لجناح جمعية الفنون الزخرفية في المعرض الأصلي. تعكس هذه الأقسام إبداع المصممين وأهمية الابتكار في تصميم المساحات الداخلية بأسلوب الآرت ديكو.
إعادة اكتشاف إرث جاك دوسيه
يشمل العرض أيضًا قطع أثاث كانت مملوكة لمصمم الأزياء جاك دوسيه، الذي أثار بيع ممتلكاته بالمزاد عام 1972 اهتمام شخصيات بارزة مثل هيلين روشاس وآندي وارهول وكارل لاغرفيلد وإيف سان لوران وبيير بيرجيه. هذا الحدث ساعد على إعادة فن الآرت ديكو إلى دائرة الضوء، مبرزًا أهميته التاريخية والثقافية.
استمرار تأثير الآرت ديكو اليوم
مع تخصيص الحركة لأول حفل صيفي ينظمه متحف الفنون الزخرفية، بالإضافة إلى معرض Matter & Shape المزمع في فبراير 2026، يبدو أن فن الآرت ديكو قد عاد بقوة إلى الواجهة، مستمرًا في إلهام المصممين والجمهور على حد سواء.
✦ تحليل ArchUp التحريري
يمكن النظر إلى المعرض الدولي للفنون الزخرفية لعام 1925 كفرصة لفهم كيفية دمج الفن مع الصناعة والمجتمع، إذ يوضح كيف يمكن للتصميم الداخلي والأثاث أن يعكس تطورات صناعية وثقافية معينة. من الإيجابيات، يوفر المعرض رؤية واضحة لتطور أساليب الزخرفة والمواد المستخدمة، ما يمنح المصممين والباحثين مرجعًا تاريخيًا قيّمًا يمكن الاستفادة منه في دراسة الأساليب الكلاسيكية والتقنيات التقليدية.
مع ذلك، يظل التطبيق العملي لفن الآرت ديكو في مشاريع معاصرة محدودًا نسبيًا، إذ يمكن أن يكون تكييفه ضمن البيئات الحديثة صعبًا بسبب التكاليف العالية للمواد الدقيقة والزخارف المعقدة، وكذلك الحاجة إلى مهارات تنفيذية متخصصة. كما أن التركيز الشديد على الفخامة والتفاصيل الزخرفية قد يجعل من الصعب تحقيق التوازن بين الجانب الجمالي والمتطلبات العملية أو الاستدامة في المشاريع الحديثة.
من منظور معماري، يمكن للمصممين استخلاص دروس مهمة من المعرض، مثل دمج العناصر الزخرفية مع الوظائف اليومية، أو استلهام النسب والتراكيب الهندسية الدقيقة، لكن مع مراعاة تعديلها لتتناسب مع القيود المعاصرة مثل المساحات المحدودة، الميزانيات، ومعايير الاستدامة، ما يجعل تجربة الآرت ديكو أكثر قابلية للتطبيق ضمن السياق الحديث.
قُدم لكم بكل حب وإخلاص من فريق ArchUp
لا تفوّت فرصة استكشاف المزيد من أخبار معمارية في مجالات الفعاليات المعمارية، و التصميم عبر موقع ArchUp.