إعادة اكتشاف الذاكرة: مركز تفسير الحبوب في البرتغال يحول طاحونة تاريخية إلى فضاء حيوي
في قلب الريف البرتغالي، حيث تنساب المياه في القنوات القديمة، ينهض مشروع “مركز تفسير الحبوب” كشاهد معماري على حوار خلاق بين الماضي والحاضر. قام مكتب há.atelier بإعادة تأهيل طاحونة مائية تاريخية في اتحاد أبرشيات ساو ميغيل وسانتا أوفيميا ورابشال، محولاً إياها إلى مساحة حية تكرس للحفاظ على الثقافة والتعليم المجتمعي. يمثل هذا المشروع، الذي اكتمل عام 2024 وتبلغ مساحته 210 متر مربع، نموذجاً متميزاً لـ إعادة الاستخدام التكيفي، لا يقتصر على ترميم الجدران الحجرية فحسب، بل يعيد إحياء العلاقة العضوية بين المبنى وبيئته وتاريخه.

الفلسفة التصميمية: حوار دقيق بين الحفظ والتجديد
لم يفرض التصميم لغة معمارية جديدة على المبنى التاريخي، بل انطلق من فلسفة ترى القيمة الجوهرية في ما هو قائم. تؤكد منهجية há.atelier على احترام الأصالة، تسمح الهياكل والمواد والعمليات الأصلية بأن تكون المرشد الأساسي للتدخل. هذه الفلسفة تحول المشروع من مجرد ترميم إلى عملية “قراءة” للنسيج المعماري القائم، حيث يتم الكشف عن طبقات التاريخ وإبرازها بدلاً من طمسها. الهدف كان خلق مساحة يكون فيها الماضي محسوساً وحاضراً، بينما تخدم وظائف معاصرة تلبي احتياجات المجتمع الحالي.
إعادة إحياء النظام الهيدروليكي: قلب التجربة المعمارية
يتمحور الإنجاز المركزي للمشروع حول استعادة النظام الهيدروليكي للطاحونة بالكامل. فالمياه لا تزال تُحول من النهر لتعبر داخل المبنى عبر القنوات الحجرية الأصلية، مُنعطةً عجلة الطحن قبل أن تعود إلى مجراها الطبيعي. هذه الدورة ليست مجرد استعادة وظيفية؛ إنها تشكل العمود الفقري للتجربة الزائرية. لقد أصبحت العملية الميكانيكية القديمة سرداً تعليمياً حياً، حيث يرى الزائرون ويسمعون كيفية تحويل قوة الماء إلى طاقة لطحن الحبوب. هذا التدخل يحول العنصر الوظيفي إلى عنصر جمالي وحسي، يربط الزائر مباشرة بالأنظمة البيئية والثقافية التي شكلت هوية المنطقة لقرون.

التخطيط والبرنامج الوظيفي: نسج الماضي بالحاضر
ينقسم البرنامج المعماري للمركز إلى ثلاثة محاور متكاملة تشكل رحلة الزائر:
- منطقة العرض والتفسير: تم تخصيص هذا القسم لعرض المصنوعات اليدوية والأدوات التقليدية المرتبطة بعملية الطحن والزراعة المحلية. لا تهدف هذه المنطقة إلى العرض فقط، بل إلى وضع الزائر في السياق التاريخي والثقافي الكامل لعملية إنتاج الخبز، من الحبة إلى الرغيف.
- المطحنة الوظيفية: وهي نواة المشروع، حيث تم ترميم الطاحونة نفسها لتعمل مرة أخرى. هذا القسم لا يقدم مجرد نموذج جامد، بل يضمن بقاء طحن الحبوب ممارسة حية يمكن للزوار مشاهدتها بل والمشاركة فيها في بعض الأحيان، مما يعمق فهمهم للتراث الحرفي.
- المساحة المجتمعية المشتركة: تم إنشاء هذه المساحة لاستضافة ورش العمل التعليمية والتجمعات المجتمعية والحوارات. تعمل هذه المنطقة كحاضنة للتبادل بين الأجيال، حيث يمكن لكبار السن مشاركة معرفتهم مع الشباب، استمرارية التقاليد في إطار حديث.

لغة المواد: استمرارية الذاكرة من خلال التفاصيل
تتجلى روح المكان في لوحة المواد التي حافظت بشكل صارم على الطابع الأصلي. فقد تم الحفاظ على الحجر المحلي والأخشاب القديمة حيثما أمكن، بينما جاءت المواد الجديدة في التدخلات المعاصرة مقتضبة ومحايدة، باستخدام الخرسانة العادية والزجاج والحديد، متجنبةً أي “فائض” يطغى على أصالة المبنى. إحدى الإيماءات المعبرة هي إعادة استخدام لوح حجري كبير كان جزءاً من شرفة الوصول، وتحويله إلى طاولة مركزية في المساحة المجتمعية، مدعومة بأرجل خشبية تم انتشالها من عوارض الهيكل الأصلي. هذه القطعة ترمز إلى استمرارية الذاكرة المادية، محولةً بقايا الماضي إلى عنصر وظيفي يجمع الناس في الحاضر


الأثر المجتمعي والبيئي: تجاوز الحفظ إلى التفاعل
من خلال تصميمه الحساس، يتخطى مركز تفسير الحبوب هدف الحفظ المادي ليصبح أداة فعالة لتعزيز الانتماء المجتمعي والوعي البيئي. يعيد المشروع ربط سكان المنطقة بتراثهم المادي وغير المادي، مع وضع الموقع على الخريطة كوجهة تعليمية وثقافية تجذب الزوار من خارج المنطقة. يوضح المشروع كيف يمكن لـ إعادة الاستخدام التكيفي أن يكون أداة للاستدامة، ليس فقط بيئياً من خلال إعادة استخدام المباني والمواد القائمة، بل أيضاً ثقافياً واجتماعياً، عن طريق تنشيط التقاليد الريفية وجعلها ذات صلة بالحياة المعاصرة، مما يضمن استمرارها للأجيال القادمة.
✦ رؤية تحريرية من ArchUp
يتناول المشروع إعادة تأهيل طاحونة مائية تاريخية لتحويلها إلى مركز تفسيري، في محاولة لربط الماضي بالوظيفة المعاصرة. من خلال التحليل، يلاحظ أن التدخل المعماري التزم بحدود الحفظ إلى درجة قد تقيد التجربة المكانية الحديثة، حيث يبدو أن الأولوية المطلقة للعناصر القائمة قد حدّت من إدخال ضوء طبيعي كافٍ إلى بعض المساحات الداخلية، مما يخلق اعتماداً أكبر على الإضاءة الاصطناعية في مناطق العرض. كما أن التوزيع الوظيفي الحالي يحافظ على التقسيمات الأصلية بشكل صارم، مما قد لا يلبي بالمرونة المطلوبة الاحتياجات المتغيرة للأنشطة المجتمعية والتعليمية المتنوعة. ومع ذلك، يتميز المشروع باستعادة النظام الهيدروليكي كعنصر معماري وفني حي، مما يحول العملية الوظيفية التاريخية إلى تجربة حسية مباشرة تربط الزائر بالسياق البيئي.
مقدم لكم من فريق تحرير ArchUp
من هنا يبدأ الإلهام. تعمق في الهندسة المعمارية، والتصميم الداخلي، والبحث، والمدن، والتصميم، والمشاريع الرائدة على ArchUp.