الأسطورة والمعمار: كيف تشكل الحكايات مساحاتنا من اليونان القديمة إلى العالم الافتراضي
مقدمة: منذ فجر الوعي الإنساني، لم تكن العمارة مجرد وسيلة لتوفير المأوى، بل كانت التجسيد المادي لرؤية العالم لدى المجتمعات. تقف الأسطورة كنقطة التقاء أساسية بين صنع الفضاء وحكاياته، حيث تتحول السرديات الشفوية إلى كيانات حجرية تخلق العالم، وتفسره، وتحدد علاقتنا به. تبحث هذه المقالة في الرحلة العميقة للعلاقة التكافلية بين السرد والتشكيل المعماري، وكيف استمر هذا الاتصال من حول النار في المجتمعات البدائية إلى شاشات الواقع الافتراضي في عصرنا الرقمي.
الأسطورة التأسيسية: المخطط الأول للمدينة المثالية
في الحضارة اليونانية، تجاوزت الأساطير دورها الترفيهي لتصبح نسيجاً ثقافياً وتعليمياً. لم تكن هذه القصص محض خيال، بل كانت أداة لفك شفرات الكون وتأسيس النماذج المجتمعية. يمكن تصنيفها إلى:
· الأساطير الكونية: التي سعت إلى شرح أصل الكون (الكوسموس).
· الأساطير الثيوجونية: التي نسقت العلاقة المعقدة بين الآلهة والبشر.
· الأساطير المسببة: التي قدمت تفسيرات للظواهر الطبيعية.
· الأساطير التأسيسية: التي مثلت المخطط الروحي والمكاني لإنشاء المدائن وهياكل المجتمع.
وفي هذا الإطار، برز أفلاطون كأحد أوائل المفكرين الذين وظفوا الأسطورة بشكل منهجي. في حواراته مثل “الجمهورية” و”القوانين”، لم يقدم مدناً فاضلة مجردة، بل استخدم أسطورة “أطلانطس” كمنصة تجريبية. لم يكن وصفه للجزيرة ذات الدوائر المائية والأرضية المتحدة المركز، وقصر بوسيدون في مركزها، مجرد خيال أدبي، بل كان نموذجاً حياً لاستكشاف مبادئ الحكم والعدالة والتنظيم الحضري من خلال قالب سردي، مما جعل الفكرة الفلسفية المجردة قابلة للتخيل والإدراك.

العتبات والرحلات: البنية السردية للفضاء المقدس
يتعمق الباحث “ميرسيا إلياد” في فكرة أن المبنى التقليدي لم يكن مسقفاً، بل كان “تجسيداً للكون” (Cosmicization). فالمساحة المُعَمَّرة تُنظَّم حول محور مركزى (Axis Mundi) وتُوجه وفقاً للمعطيات الفلكية (كشروق الشمس) لتحويل العالم الفوضوي إلى عالم مألوف ومقدس. هذه الترجمة المكانية للأسطورة تتجاوز النقش الزخرفي لتشكل العظام الأساسية للمشروع.
بالتوازي، يقدم “جوزيف كامبل” في كتابه “البطل بألف وجه” نموذج “الرحلة الأحادية” (The Monomyth)، التي تتكون من مراحل: الانطلاق (المغادرة)، والابتداء (الاختبارات)، والعودة. هذه البنية السردية تتطابق بشكل لافت مع تصميم العديد من الصروح المعمارية عبر التاريخ:
· العتبة (The Threshold): تمثل بوابة المعبد أو المدخل الضخم لحظة عبور البطل من العالم العادي إلى العالم الخاص، وهي اللحظة التي ينفصل فيها الزائر عن الخارج استعداداً لخبرة مختلفة.
· المسار المتسلسل (The Road of Trials): الممرات الطويلة، السلالم المتعاقبة، والغرف المتتابعة في المبنى تمثل سلسلة المحن والاختبارات التي يجب على البطل تخطيها.
· الحرم الداخلي (The Sanctum): الغرفة المركزية أو قدس الأقداس تمثل ذروة الرحلة، وهي لحظة الوصول إلى الكنز أو البصيرة، والعودة بالنعمة إلى العالم.

أمثلة حية: حين تتحول الملحمة إلى حجر وتراب
· أنغكور وات، كمبوديا: جبل العالم مجسداً: لا يقتصر تجسيد هذا المعبد الضخم للملحمتين الهندوسيتين “الرامايانا” و”المهابهاراتا” على النقوش البارزة التي تغطي جدرانه. التصميم المعماري نفسه هو قراءة مكانية للملحمة. التدرج في المستويات، والمسار الحلزوني للصعود نحو البرج المركزي، وتوزيع المعابد الفرعية، كلها تعيد تمثيل الجغرافيا الأسطورية للكون الهندوسي، محولة زيارة المعبد إلى رحلة حج عبر قصة مقدسة.
· الهوغان، ثقافة النافاجو: الكون في مسكن: المسكن التقليدي لشعب النافاجو هو مثال رئيسي على العمارة الكونية. الشكل الدائري، المواد الطبيعية من أخشاب وتراب، وتوجيه المدخل شرقاً لاستقبال “الروح التي تتحرك مع الصباح” (الشمس)، كلها عناصر لا تعكس فقط الاحتياجات المناخية. الجدران الأربعة ترمز إلى الجبال المقدسة الأربعة التي تحدد عالم النافاجو، بينما يمثل القبة السقفية القبة السماوية, يصبح الهوغان تصغيراً للعالم وترتيباً له، وهو المكان الذي تُستضاف فيه الطقوس لاستمرار توازن هذا العالم.

استمرارية الأسطورة: من بيتر زومثور إلى العالم الافتراضي
لم تنقطع عروة الوصل بين السرد والمعمار في العصر الحديث، بل اتخذت أشكالاً أكثر تجريدية وقوة.
· كنيسة كلاوس فيلد (بيتر زومثور): أسطورة المادة والإحساس: هنا، تخلت الأسطورة عن شخصياتها لتصبح خبرة حسية محضة. لا تحكي الكنيسة قصة مكتوبة، بل “تُحدث” قصة الظلام والنور، والثقل والخفة، والخشب المحروق والهواء البارد. التصميم الداخلي المغلق والمجوف يخلق عتبة قوية تنقل الزائر من ضجيج العالم الخارجي إلى صمت العالم الداخلي، محولاً الرحلة الجسدية إلى رحلة تأملية داخلية.
· المتحف اليهودي في برلين (دانييل ليبيسكيند): سردية التقطيع والفراغ: يمثل المشروع نقلة نوعية في سرد القصص المعمارية. بدلاً من تمثيل قصة خطية، يستخدم ليبيسكيند هندسة مجزأة، محاور متقطعة، وفراغات مادية ملموسة (مثل برج الهولوكوست) لرواية قصة الشتات والضياع والغياب التي لا يمكن سردها بكلمات. العمارة هنا أصبحت اللغة نفسها لرواية تاريخ مؤلم، حيث يُجبر الزائر على تجربة الإحساس بالضياع والقلق بشكل مادي.
· الولادة الجديدة: الأسطورة في العصر الرقمي: يمنحنا العصر الرقمي أدوات جديدة لبعث تقاليد السرد الشفوي. تقنيات مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) تمكن المصممين من خلق عوالم أسطورية كاملة كان استحالة بناؤها مادياً. وفي الوقت نفسه، دفعت ألعاب الفيديو مفهوم الأساطير المعمارية إلى مستوى غير مسبوق. فهي لا تخلق مناظر طبيعية أسطورية فحسب، بل تضع القصص والشفرات والطقوس في بنيتها التفاعلية، مما يمكن اللاعب من “سكن” الأسطورة وأداء طقوسها في الزمن الحقيقي، ليصبح هو البطل في رحلة كامبل الأحادية.

الخلاصة: الذاكرة غير المادية.. النسيج الخفي للمكان
في حين يُوجه قدر كبير من الاهتمام نحو الحفاظ على التراث المادي الملموس – من أنقاض وآثار ومباني مسجلة – يبقى الجانب غير المادي للثقافة هو النسيج الخفي الذي يمنح هذه الحجارة روحها ومعناها. الأساطير، الفولكلور، الحكايات الشعبية، وخيال الذاكرة الجماعية، هي التي تبرم بهدوء العلاقة بين الإنسان والمكان. هي التي تحدد لماذا يُقدس مكان، ولماذا يُتجنب آخر، وكيف تُحكى قصة جيل لآخر. هذه الذاكرة غير المرئية هي التي تشكل في النهاية طريقة عيشنا للمساحات، وتذكرنا لها، وإعادة تخيلنا المستمر لها، مؤكدة أن العمارة الحقيقية هي التي تظل تحكي قصة، حتى عندما تخرس الألسن.
✦ رؤية تحريرية من ArchUp
يتعمق المقال في الصلة الجوهرية بين السرد الأسطوري والتشكيل المعماري، مبرزاً تحول القصص إلى هياكل مادية توجه التجربة المكانية. يظهر من خلال تحليل المشاريع أن هيمنة السردية المفروضة قد تقيد المرونة الوظيفية والاستخدامات المتعددة للفراغ، حيث يخضع الأداء اليومي للمبنى لسيطرة حكاية أحادية. يؤدي الاعتماد على التجريد المكثف للمفاهيم في بعض التصاميم إلى خلق حاجز بين النية التصميمية والإدراك الحسي للمستخدم، مما قد يحوّل المساحة إلى نص مغلق يحتاج إلى تفسير خارجي أكثر من كونه بيئة حية تتكيف مع أنماط الاستخدام المتغيرة. ومع ذلك، تكمن القيمة الأساسية في قدرة هذا التزاوج على تأسيس هوية مكانية عميقة الجذور، تمنح المشروع حضوراً يتجاوز قيمته الوظيفية المباشرة ليكون أرشيفاً ثقافوج على تأسيس هوية مكانية عميقة الجذور، تمنح المشروع حضوراً يتجاوز قيمته الوظيفية المباشرة ليكون أرشيفاً ثقافياً يحياً يحفّز على التأمل ويديم الحوار بين الماضي والمستقبل.فّز على التأمل ويديم الحوار بين الماضي والمستقبل.
مقدم لكم من فريق تحرير ArchUp
من هنا يبدأ الإلهام. تعمق في الهندسة المعمارية، والتصميم الداخلي، والبحث، والمدن، والتصميم، والمشاريع الرائدة على ArchUp.