عند سماع مصطلح «العمارة الطفيلية» (Parasitic Architecture)، قد يتبادر إلى الذهن مشهد من الطبيعة لكائنٍ حيّ يعيش على حساب كائنٍ آخر. ولكن، في العالم المعماري، يحمل المصطلح معاني أوسع وأعمق بكثير، تتراوح بين الابتكار والتمرد على المألوف، وبين إثارة الجدل حول الحقوق العمرانية والمساحات العامة.
ما هي العمارة الطفيلية؟
تُعرَّف العمارة الطفيلية بأنها ممارسات معمارية وتصميمية تقوم على استغلال الفراغات المهملة أو غير المستخدمة ضمن المباني أو المساحات الحضرية القائمة، وذلك بإضافة وحدات جديدة تستند بشكلٍ رئيسي على المنشآت الموجودة دون أن تمتلك بالضرورة قواعد وأسسًا خاصة بها.
يشمل هذا النمط التصميمي منشآت تتعلق بجوانب متعددة من الحياة اليومية، مثل وحدات السكن الصغيرة، المكاتب المصغرة، المقاهي، وحتى الحدائق العمودية التي تعلَّق على الجدران الخارجية للمباني.
تُوصف هذه المشاريع بأنها «طفيلية» لكونها تعتمد على البنية الأساسية التي يوفرها مبنى قائم، إذ تتسلّق وتتكئ عليها لتحصل على الدعم الإنشائي والكهرباء والماء.
السياق التاريخي: بدايات الفكرة
بدأت فكرة العمارة الطفيلية بالظهور في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كرد فعل على ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات في المدن الكبرى مثل لندن، طوكيو، وبرلين. ومع الوقت، اتسعت لتشمل مدنًا مثل هونغ كونغ وباريس وسان فرانسيسكو. لكن الطفرة الحقيقية حدثت في أواخر التسعينات وبداية الألفية الجديدة مع تفاقم أزمات السكن، خاصة في المدن المكتظة بالسكان.
عام 1998، طرح المعماري البريطاني مايكل راكويتز (Michael Rakowitz) مشروعه الشهير «paraSITE»، الذي صمم فيه مساكن صغيرة للمشردين باستخدام فتحات تهوية المباني لتوفير التدفئة، لافتًا النظر إلى الإمكانيات غير المستغلة في البنى الحضرية.
للمزيد على ArchUp:
أنماط وأشكال العمارة الطفيلية
تأخذ العمارة الطفيلية أشكالًا متنوعة للغاية، من أبرزها:
- المنازل الطفيلية (Parasitic Houses)
وحدات سكنية صغيرة تُعلَّق أو تُلصَق على جدران المباني القائمة. مثال ذلك «Manifest Destiny» (2016) في سان فرانسيسكو، وهو منزل خشبي صغير مثبَّت على جانب مبنى تاريخي، واعتُبر رمزًا نقديًا لأزمة السكن بالمدينة. - المكاتب الطفيلية (Parasitic Offices)
مشاريع مثل «Parasite Office» في موسكو (2011)، الذي يستغل المساحات الفارغة بين المباني التاريخية كمكاتب صغيرة مؤقتة للمهنيين والفنانين. - الحدائق العمودية الطفيلية (Parasitic Gardens)
مثل حدائق باريس العمودية التي تستخدم الجدران الخارجية لمباني سكنية لإنتاج الغذاء والمساحات الخضراء في المدينة المكتظة. - الوحدات الطفيلية المتنقلة (Mobile Parasites)
مثل «paraSITE» لمايكل راكويتز، التي توفر مساكن مؤقتة وقابلة للنقل والتثبيت.
الدوافع وراء العمارة الطفيلية
هنالك أسباب متعددة دفعت لتبني هذا النهج التصميمي:
- الاستغلال الأمثل للفراغات الحضرية:
في مدن مثل هونغ كونغ ولندن، حيث الأرض مرتفعة الثمن، تُعد العمارة الطفيلية حلًا لتوفير مساحات معيشية إضافية دون الحاجة إلى أراضٍ جديدة. - رد فعل اجتماعي وسياسي:
غالبًا ما تحمل العمارة الطفيلية رسالة سياسية واجتماعية، تبرز مشكلات مثل التفاوت الاجتماعي، وأزمات السكن، والهدر الحضري. - الاستدامة وإعادة التدوير:
تستخدم هذه المشاريع الموارد والبنى الموجودة أصلًا، مما يقلل الحاجة إلى مواد البناء الجديدة ويخفض البصمة الكربونية.
أمثلة عالمية مميزة
1. مشروع Manifest Destiny – سان فرانسيسكو (2016)
مشروع من تصميم الفنان مارك ريغيلمان (Mark Reigelman)، حيث يعلق بيتًا خشبيًا صغيرًا على جدار فندق مهجور. يمثل المشروع تعليقًا ساخرًا على أزمة العقارات في كاليفورنيا.
2. مشروع paraSITE – نيويورك، بوسطن، شيكاغو (1998-2001)
ابتكار مايكل راكويتز، وحدات بلاستيكية تُربط بمخارج تهوية المباني لتدفئة مساكن مؤقتة للمشردين. المشروع لفت النظر بشدة لحقوق الفئات المهمشة.
3. مكاتب Parasite Office – موسكو (2011)
تصميم من شركة ZA Bor Architects يستغل المساحات الضيقة بين المباني التاريخية في موسكو، حيث يوفر مساحات عمل عصرية بأقل التكاليف.
4. حدائق باريس العمودية (Vertical Gardens) – باريس
مشاريع مصممة من قبل المهندس النباتي باتريك بلان (Patrick Blanc)، الذي استغل جدران المباني القديمة لنشر الخضرة داخل المدينة.
نقد وتحديات
رغم مميزاتها، تواجه العمارة الطفيلية تحديات كبيرة مثل:
- المسائل القانونية:
في معظم الحالات، تتعارض هذه المشاريع مع قوانين البناء والتنظيمات الحضرية، وتعتبر في كثير من الأحيان «تعديًا» على حقوق ملكية المباني. - القضايا الهيكلية والسلامة:
يشكك البعض في مدى سلامة وقوة الوحدات المعلقة على المباني القديمة، ما يثير قلقًا من مخاطر الانهيارات أو الحوادث. - الرفض الاجتماعي:
بعض المجتمعات ترفض الفكرة جملة وتفصيلًا باعتبارها تشوهًا للمنظر الحضري وانتقاصًا من جمالية المدينة.
هل تمثل العمارة الطفيلية مستقبل العمارة؟
بين من يراها ابتكارًا فنيًا واجتماعيًا ضروريًا، ومن يعتبرها مجرد «فوضى معمارية»، لا يمكن إنكار أن العمارة الطفيلية تحفّز حوارًا مهمًا حول استخدام المساحات العامة في المدن والتخطيط الحضري المرن.
قد لا تصبح العمارة الطفيلية القاعدة، لكنها بالتأكيد تمثل توجهًا مهمًا، يفتح آفاقًا جديدة للتفكير المعماري، ويُثير أسئلة حول العدالة الاجتماعية، الاستدامة، والحقوق الحضرية.
خلاصة
العمارة الطفيلية هي أكثر من مجرد تصاميم معمارية؛ إنها فلسفة نقدية وموقف اجتماعي، تطرح أسئلة جريئة عن كيفية استخدام مدننا، ومن يملك الحق في استخدامها. قد تبدو اليوم تحديًا، ولكن ربما تكون غدًا حلاً إبداعيًا لمشاكل حضرية معقدة.
مصادر ومراجع:
- Michael Rakowitz, “paraSITE,” MoMA Exhibition, 1998
- Mark Reigelman, “Manifest Destiny,” San Francisco, 2016
- ZA Bor Architects, “Parasite Office,” ArchDaily, 2011
- Patrick Blanc, “Vertical Gardens,” Paris Municipality Reports, 2010-2020
- «The Politics of Parasitic Architecture,» Journal of Urban Design, 2020
- «Urban Parasites: Spatial Politics and the New Informality,» MIT Press, 2015