بيت النهار: تحويل العمارة الفيكتورية إلى حديثة في ملبورن
مقدمة: رحلة تحول معمارية
يشكل “بيت النهار” (The Day House) في ضاحية مالفيرن بمدينة ملبورن الأسترالية نموذجاً استثنائياً لإحياء التراث المعماري عبر تدخل معاصر يحترم الماضي ويحتضن المستقبل. يمثل هذا المشروع الذي أنجزته شركة IF Architecture للهندسة المعمارية حالة دراسية فريدة في الموازنة بين المتطلبات الوظيفية للحياة العصرية والحفاظ على الهوية التاريخية للمباني الفيكتورية.
السياق التاريخي والتحول المعماري
يعود أصل هذا المبنى إلى العصر الفيكتوري، حيث صممه المهندس نيكولاس داي قبل أكثر من قرن من الزمان. مع تتابع الحقب الزمنية، تراكمت طبقات متعددة من التعديلات والإضافات على المبنى الأصلي، مما أفقد المسكن تماسكه الوظيفي والبصري. أصبح المنزل بمثابة غرفة ألغاز معمارية، تفتقر إلى الانسيابية والربط بين فراغاته المختلفة، مما جعله عاجزاً عن تلبية احتياجات الأسرة الحديثة ومتطلبات الحياة المعاصرة.

المنهجية التصميمية: حوار بين الأزمنة
اعتمدت استراتيجية التدخل المعماري على مبدأ “التمييز الواضح” بين القديم والجديد، حيث تم الفصل عمداً بين الكتلة التاريخية المرممة والإضافة المعاصرة. لم يسعَ المصممون إلى محاكاة النمط الفيكتوري أو محاولة دمج الإضافة الجديدة مع القديم بشكل قسري، بل اختاروا إنشاء حوار بصري صريح بين لغتين معماريتين مختلفتين.
الواجهة التراثية: إحياء الذاكرة المعمارية
تم ترميم الواجهة الأمامية للمنزل والشرفة الأصلية بدقة متناهية، مع الحفاظ على جميع العناصر الزخرفية الفيكتورية المميزة. شمل العمل إعادة تأهيل التفاصيل الخشبية الدقيقة، والنوافذ ذات التصميم التقليدي، والأسقف المائلة ذات القرميد التقليدي. يشكل هذا الجزء المرمم شهادة حية على العمارة الفيكتورية وأسلوب الحياة في الحقبة التاريخية التي نشأ فيها المنزل.

الإضافة المعاصرة: لغة جديدة في حوار قديم
تمثل الإضافة الخلفية الجديدة بياناً معمارياً حديثاً بامتياز، حيث تستخدم لغة المواد صريحة تعتمد على:
· الأخشاب الداكنة التي توفر الدفء والعمق البصري
· الأسطح الزجاجية الشفافة التي تخلق شفافية بصرية
· خطوط الأسقف المبسطة التي تعبر عن الحداثة والوظيفية
التجربة المكانية: من الظلام إلى النور
يشكل الانتقال من الجزء القديم إلى الحديث رحلة حسية متدرجة، حيث ينتقل الساكن من فضاءات مغلقة نسبياً إلى مساحات مفتوحة غارقة في الضوء الطبيعي. تعمل الأرضيات الخشبية المتعرجة كخيط ناظم يربط بين الأجزاء المختلفة، محافظةً على الاستمرارية الحسية رغم الاختلاف الأسلوبي.


الفراغات الداخلية: بين الوظيفة والجمال
تم إعادة تنظيم التخطيط الداخلي بشكل جذري، حيث تم تحويل المساحات المتقطعة إلى فراغات متصلة تخدم الحياة العائلية المعاصرة:
منطقة المعيشة المفتوحة
تم دمج مناطق المعيشة وتناول الطعام والمطبخ في فراغ واحد متصل، تغمره الإضاءة الطبيعية من خلال النوافذ الكبيرة ذات الإطارات الفولاذية الرقيقة. أصبحت الحديقة امتداداً بصرياً للفراغ الداخلي، مما يخلق إحساساً بالاتصال المستمر مع الطبيعة.
المطبخ: القلب النابض للمنزل
تموضع جزيرة المطبخ الحجرية كعنصر مركزي في التصميم، كمنصة للتفاعل العائلي اليومي. تم اختيار المواد بعناية فائقة، حيث يجمع بين الرخام الطبيعي والأخشاب العضوية والإضاءة النحاسية، مشكّلاً لوحة مواد متجانسة.


غرفة الجلوس الأمامية: احترام الموروث
تم الحفاظ على الطابع الأصلي لغرفة الجلوس الأمامية، مع إدخال تحسينات خفية على الألوان والنسيج لتليين الحدة التاريخية وجعل الفراغ أكثر ملاءمة للاستخدام المعاصر.
التكامل مع المناظر الطبيعية: محو الحدود
يمثل التداخل بين الداخل والخارج أحد أهم إنجازات هذا المشروع. تمديد الأرضيات المستمرة من الداخل إلى الفناء الخارجي، تم محو الحدود التقليدية بين المساحات المبنية والطبيعية. أصبحت الحديقة جزءاً لا يتجزأ من التجربة المعيشية، حيث يمكن الاستمتاع بها على مدار فصول السنة المختلفة.
المواد والحرفية: حوار الملمس واللون
اعتمد المشروع على لوحة متقنة تضم:
· الحجر الطبيعي في الأرضيات والجدران
· الأخشاب العضوية في الأرضيات والأثاث
· المعادن في التفاصيل والإضاءة
· الزجاج في الفتحات والفواصل
الاستدامة والكفاءة الطاقةية
تم دمج حلول مستدامة غير ظاهرة للعيان، شملت:
· أنظمة عزل حراري متطورة
· نوافذ مزدوجة الطبقات عالية الكفاءة
· أنظمة إضاءة موفرة للطاقة
· تحسين التهوية الطبيعية عبر التصميم السلبي

الخاتمة: إرث متجدد للأجيال القادمة
يمثل “بيت النهار” نموذجاً ملهماً لكيفية التعامل مع التراث المعماري ليس كعبء يجب الحفاظ عليه، بل كفرصة للإبداع والتجديد. يثبت هذا المشروع أن الماضي والحاضر يمكن أن يتعايشا في حوار مثمر، يثري التجربة المعيشية ويحفظ الذاكرة الجمعية للمكان.
✦ رؤية تحريرية من ArchUp
يتناول المشروع تحويل مسكن فيكتوري تقليدي إلى مبنى معاصر يلبي احتياجات الأسرة الحديثة. يعتمد التصميم على فصل كامل بين الكتلة التاريخية المرممة والإضافة الحديثة، مما يخلق قطيعة بصرية واضحة بين الماضي والحاضر. يظهر التحدي في تحقيق التكامل الوظيفي بين الجزئين، حيث تبقى العلاقة بينهما على مستوى الربط المادي أكثر منها اندماجاً حقيقياً. استخدمت المواد الحديثة مثل الزجاج والخشب الداكن بشكل قد يطغى على شخصية المبنى الأصلي في بعض المساحات. يبرز التدخل في تحسين تدفق الحركة بين الفراغات الداخلية وتوفير اتصال بصري مباشر مع الحديقة، مما يعزز جودة الحياة اليومية داخل المسكن.
مقدم لكم من فريق تحرير ArchUp
من هنا يبدأ الإلهام. تعمق في الهندسة المعمارية، والتصميم الداخلي، والبحث، والمدن، والتصميم، والمشاريع الرائدة على ArchUp.