كيف تحوّل سكتش أولي إلى هوية دبلوماسية: قصة تصميم القنصلية الإندونيسية الجديدة في جدة
لم يبدأ مشروع القنصلية الإندونيسية الجديدة في جدة كتصميم جاهز أو صورة نهائية تبحث عن تنفيذ، بل كعملية تفكير مفتوحة في معنى العمارة الدبلوماسية داخل مدينة تحمل ثقلًا دينيًا وثقافيًا واقتصاديًا مثل جدة. كان السؤال منذ اللحظة الأولى أقل ارتباطًا بالشكل، وأكثر ارتباطًا بالدور: كيف يمكن لمبنى دبلوماسي أن يكون رمزًا دون أن يكون خطابًا، وهوية دون أن يكون تكرارًا؟
هذا السؤال هو ما قاد المعماري السعودي إبراهيم نواف جوهرجي إلى تبنّي منهج تصميمي يعتمد على التطوير المرحلي، والبحث الثقافي، والتحليل الرياضي، بدلًا من الاستنساخ البصري أو الزخرفة المباشرة.
السكتش الأول: ضربة اتجاه لا صورة نهائية
السكتش الأول للمشروع لم يكن مخططًا واجهيًا ولا كتلة مكتملة، بل ما يمكن وصفه بـ«ضربة اتجاه». خط أولي يحدد العلاقة بين الأرض، والشارع، والكتلة، والفراغ. في هذه المرحلة، لم يكن الهدف الوصول إلى شكل جميل، بل اختبار فكرة الحضور: هل ينبغي للمبنى أن يعلن نفسه، أم أن يكتسب قوته من توازنه؟
هذا السكتش كان نقطة انطلاق لثلاث مراحل تطوير لاحقة، جرى فيها تفكيك الفكرة وإعادة بنائها عدة مرات، حتى استقر المشروع على كتلته النهائية. ما يميّز هذه المرحلة أنها لم تكن بحثًا عن أيقونة، بل محاولة لفهم السياق الدبلوماسي قبل المعماري.
ثلاث مراحل تطوير شكّلت الهوية
مرّ التصميم بثلاث تحولات رئيسية. في المرحلة الأولى، جرى تجريد المرجع الثقافي الإندونيسي من شكله المباشر، وتحويله إلى علاقات نسبية. في المرحلة الثانية، بدأ تثبيت الكتلة الهندسية عبر نسب رياضية دقيقة، أبرزها النسبة الذهبية، ما منح المبنى توازنًا بصريًا واضحًا دون اللجوء إلى رمزية مباشرة. أما المرحلة الثالثة، فكانت الأكثر حساسية، إذ خضع الشكل بالكامل لمتطلبات المناخ، وتوجيه الشمس، وحركة الرياح، ليعاد ضبط الواجهة والفراغات وفق الأداء البيئي.
هذا التطوير المرحلي جعل الشكل النهائي نتيجة منطقية لسلسلة قرارات، لا نتيجة ذوق شخصي أو نزعة شكلية.
الباتيك: من زخرفة إلى نظام رياضي
أحد أكثر عناصر المشروع تعقيدًا كان التعامل مع الباتيك الإندونيسي. بدل اختيار نمط واحد وتكبيره على الواجهة، جرى تحليل الباتيك بوصفه نظامًا، لا زخرفة. الدراسة شملت ثلاث طبقات مختلفة من أنماط الباتيك، تمثل مناطق وثقافات متعددة داخل إندونيسيا، ثم جرى دمج هذه الطبقات في منظومة هندسية واحدة.
أظهرت الدراسة أن الباتيك لا يعمل كشبكة متجانسة، بل كجزر هندسية متجاورة، لكل منها منطقها الداخلي. هذه الفكرة تحولت إلى أساس توليدي للواجهة، حيث تم تصميم نظام تظليل ثلاثي الأبعاد يعتمد على تكرار غير متماثل، يحافظ على الإيقاع دون الوقوع في الرتابة.
النتيجة لم تكن واجهة زخرفية، بل غلافًا معماريًا وظيفيًا، يعكس الثقافة من خلال المنطق، لا من خلال الشكل المباشر.
بين 19 طرازًا سعوديًا و28 طرازًا إندونيسيًا
السياق الثقافي للمشروع لم يكن أحادي البعد. فالمملكة العربية السعودية اليوم تعترف بنحو 19 طرازًا عمرانيًا محليًا، لكل منها خصائصه المرتبطة بالجغرافيا والمناخ. في المقابل، تضم إندونيسيا أكثر من 28 طرازًا معماريًا تقليديًا، تشكّلت عبر آلاف الجزر واختلافات بيئية واجتماعية واسعة.
لم يحاول المشروع تمثيل هذا التنوع حرفيًا، بل سعى إلى إيجاد لغة مشتركة تستوعبه. اللغة هنا كانت هندسية، قائمة على النسب، والتكرار، والتدرّج، بما يسمح للمبنى أن يكون إندونيسي الروح، وسعودي السياق، دون تناقض.
الاستدامة: قرار تصميمي لا إضافة لاحقة
منذ المراحل الأولى، تم تطوير المشروع بالكامل عبر نمذجة معلومات البناء (BIM). هذه المنهجية لم تُستخدم فقط للتنسيق الهندسي، بل كانت أداة تحليل بيئي أساسية. جرى اختبار حركة الهواء، واتجاه الرياح، وزوايا الشمس، وكفاءة الطاقة في كل مرحلة من مراحل التطوير.
الواجهة البارامترية لم تتشكل بدافع جمالي، بل نتيجة دراسة دقيقة لأكثر الواجهات تعرضًا للشمس، حيث زادت كثافة التظليل في المناطق الحرجة، وخفّت في المناطق الأقل تعرضًا. هذا التدرج لم يحسّن الأداء الحراري فحسب، بل منح الواجهة عمقًا بصريًا متغيرًا على مدار اليوم.
كفاءة الطاقة كانت أحد الأهداف الأساسية، ليس بوصفها بندًا تقنيًا، بل كجزء من المسؤولية الدبلوماسية لمبنى يمثل دولة داخل دولة أخرى.
حين يصبح المبنى هو الشعار
مع تطور المشروع، حدث تحول غير مخطط له: الكتلة المعمارية نفسها أصبحت هوية بصرية. الشكل المثلث، الذي بدأ كتجريد هندسي، تحوّل إلى silhouette يمكن التعرف عليه دون أي عنصر إضافي. هنا، لم يعد المبنى بحاجة إلى شعار تقليدي، لأن العمارة نفسها أدّت هذا الدور.
هذا التحول يعكس فلسفة تصميمية ترى أن العمارة، حين تكون واضحة ومتوازنة، تستطيع أن تمثل المؤسسة دون وساطة رسومية.
العمل تحت حساسية دبلوماسية
تصميم مبنى دبلوماسي لا يشبه أي مشروع آخر. كل قرار يمر عبر طبقات من التنسيق مع جهات سيادية، وأنظمة بلدية، ومتطلبات أمنية، وبروتوكولات دولية. في هذا المشروع، لم يكن التحدي تقنيًا فقط، بل إجرائيًا ودبلوماسيًا.
عملية التطوير شملت اجتماعات متعددة، ومراجعات مستمرة، وتعديلات تفرضها اعتبارات لا تظهر في الرسومات. هذا النوع من المشاريع يتطلب معمارًا قادرًا على إدارة الحوار بقدر إدارته للتصميم.
عمارة تفكّر قبل أن تُنفّذ
اليوم، ومع تقدم أعمال التنفيذ، لم يعد المشروع مجرد فكرة على الورق. السكتشات الأولى، والدراسات الرياضية، ونماذج الاستدامة، كلها بدأت تتحول إلى واقع مبني. لكن قيمة المشروع لا تكمن فقط في شكله النهائي، بل في العملية التي قادته إلى هناك.
القنصلية الإندونيسية في جدة تقدّم نموذجًا لعمارة دبلوماسية هادئة، لا تصرخ بالرمز، ولا تتخلى عن الهوية. عمارة ترى في التفكير جزءًا من البناء، وفي البناء امتدادًا للعلاقات بين الدول.
✦ تحليل ArchUp التحريري
على الرغم من النضج المفاهيمي الواضح الذي يحمله المشروع، إلا أن هذا النوع من العمارة القائمة على التجريد العالي والمنهج التحليلي الصارم يفتح بابًا لتساؤلات مشروعة. فاعتماد الهوية على منطق هندسي ورياضي عميق قد يحدّ، في نظر بعض المستخدمين أو الزوار، من إمكانية قراءة المبنى عاطفيًا أو إدراك مرجعياته الثقافية دون معرفة مسبقة بالسياق التصميمي. هذا لا يُعد خللًا بقدر ما هو اختيار واعٍ، لكنه يضع المشروع ضمن فئة عمارة تتطلب قارئًا بقدر ما تستقبل مستخدمًا.
كما أن تحويل العناصر الثقافية إلى أنظمة توليدية، رغم ذكائه التصميمي، قد يثير نقاشًا حول حدود التجريد المقبولة في المشاريع الدبلوماسية، حيث يُفترض أحيانًا أن تلعب الرمزية دورًا أوضح في بناء الذاكرة الجمعية. في المقابل، يُحسب للمشروع أنه يتجنّب السطحية والتمثيل المباشر، ويقدّم نموذجًا يمكن الاستفادة منه في مشاريع مماثلة تسعى إلى التعبير عن الهوية عبر المنهج لا عبر الشكل.
من منظور مهني، يقدّم المشروع درسًا مهمًا في كيفية إدارة التعقيد: ثقافيًا، وبيئيًا، وإجرائيًا. وهو يفتح المجال أمام نقاش أوسع حول مستقبل العمارة الدبلوماسية في المنطقة، ومدى قدرتها على التحوّل من مبانٍ رمزية مغلقة إلى أنظمة معمارية واعية بالسياق، حتى وإن جاء ذلك على حساب القراءة السريعة أو الاستجابة الانفعالية المباشرة.