فيلا دوبروفنيك: تصميم معماري يدمج بين البيئة الطبيعية والفلسفة الداخلية للسكينة
فيلا دوبروفنيك: نموذج للسكينة على الجرف الدلماسي
بُنيت فيلا دوبروفنيك على جرفٍ يطل على الساحل الدلماسي، وأعادت فتح أبوابها بعد قرابة عامين من أعمال التجديد، لتعود كأحد المعالم المعمارية التي تمزج بين الهدوء المعاصر وجمال الطبيعة الأدرياتيكية.
مفهوم “فياكا”: فلسفة الاسترخاء الكرواتية
تستوحي الفيلا طابعها من مفهوم «فياكا» (Fjaka) الكرواتي، الذي يجسّد فنّ الاسترخاء والسكينة بوصفه أسلوب حياة متكاملًا لا مجرد حالة مؤقتة من الراحة. هذا المفهوم ينعكس في طريقة تصميم المساحات، حيث تُوجَّه العناصر المعمارية لتوليد شعورٍ بالعزلة الهادئة بعيدًا عن صخب الحياة اليومية، رغم قرب الموقع من قلب المدينة.
موقع يجمع بين العزلة والقرب
تقع الفيلا في الجزء الشرقي من دوبروفنيك بجوار شاطئ بلاجا سفِتي ياكوف (Plaža Sveti Jakov)، وهو من الشواطئ الهادئة التي توفر إطلالات خلابة على البحر الأدرياتيكي. وبفضل هذا الموقع، تُعد الفيلا نقطة انطلاق مثالية لاستكشاف المدينة القديمة التي تبعد أقل من ميل واحد فقط.
ورغم توفّر خدمة النقل المكوكية، فإن المسير لمدة 15 دقيقة نحو البلدة القديمة يمنح تجربة مختلفة، إذ يتيح للزائر التفاعل مع الإيقاع البطيء للحياة الساحلية ومشاهدة التفاصيل اليومية للمدينة المدرجة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو.
بين البحر والفن
على الطريق المؤدي إلى المدينة القديمة، يمكن التوقف عند أحد المقاعد المطلة على البحر لتأمل المشهد أو ترك الذهن ينساب في سكون. كما يُنصح بزيارة معرض أومتنيتشكا غالِرييا دوبروفنيك (Umjetnička galerija Dubrovnik)، الذي يحتضن شرفة نحتية تُعرض عليها أعمالٌ لعدد من الفنانين الكروات البارزين، من بينهم برانكو روجيتش (Branko Ružić)، ما يضفي بعدًا ثقافيًا إضافيًا على تجربة المكان.
من يقف وراء التصميم؟
رؤية المعماري آرثر كاساس
يقف وراء إعادة تصميم فيلا دوبروفنيك المعماري البرازيلي آرثر كاساس (Arthur Casas) وفريقه، المعروفون بقدرتهم على صياغة مساحات تنبض بالهدوء والانسجام. لطالما ميّزت أعمال كاساس درجات الألوان الطبيعية التي تخلق توازنًا بصريًا بين الضوء والمادة، إضافة إلى مهارته في تحويل المساحات الداخلية إلى ملاذات هادئة تعكس فلسفة الاسترخاء الكرواتية.
يقول كاساس في وصف فلسفته التصميمية:
«كل فراغ داخلي يتحاور بطبيعته مع البيئة المحيطة، ليخلق تجربة غامرة يصبح فيها المشهد الطبيعي هو البطل الرئيسي.»
انسجام الداخل مع الخارج
استلهم كاساس رؤيته من اتساع البحر الأدرياتيكي الممتد أمام الفيلا، فحوّل هذا الأفق إلى عنصر تصميمي حيّ يتفاعل مع كل تفاصيل المشروع. ومن خلال المزج بين التقاليد المحلية والروح العصرية، أوجد المعماري حوارًا بصريًا مستمرًا بين الداخل والخارج، يجعل الزائر يشعر بأن المنظر الطبيعي جزء من البنية نفسها لا مجرد خلفية لها.
بهذا الأسلوب، تتحول الفيلا إلى تجربة معمارية حسية تربط الإنسان بالمكان من خلال الضوء، والمواد، والإيقاع الطبيعي الذي يفرضه البحر والسماء.


لغة المواد واستحضار هوية المدينة
المواد كذاكرة بصرية لدوبروفنيك
كل تفصيل في تصميم فيلا دوبروفنيك – من اختيار المواد إلى تنسيق الألوان – يحمل بصمة المدينة نفسها، ليجعل إرث دوبروفنيك التاريخي حاضرًا في كل زاوية من زوايا المكان. فالمعماري آرثر كاساس لم يتعامل مع المواد بوصفها عناصر بناء فقط، بل كوسيطٍ ثقافيٍّ يربط الماضي بالحاضر.
الطين المحروق والحجر الجيري: رموز من التاريخ
اعتمد التصميم على الطين المحروق (التيراكوتا) لتجسيد أسطح المدينة التقليدية التي تميز المشهد العمراني القديم، بينما اختيرت أحجار الجير لبناء الجدران والعناصر النحتية، في إشارة واضحة إلى الطابع الحجري لأسوار دوبروفنيك القديمة، تلك التي شكّلت خط الدفاع الأول عن المدينة عبر القرون.
المواد كهوية لا كزخرفة
يعبّر كاساس عن فلسفته التصميمية قائلًا:
«المواد ليست مجرد طبقات زخرفية، بل هي عناصر هوية، تُمكّن التصميم الداخلي من التفاعل بانسجام مع التراث الحجري للمدينة.»
من هذا المنطلق، يتحول استخدام المواد إلى فعلٍ معماري واعٍ يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، ويجعل جمال دوبروفنيك التاريخي حاضرًا في التجربة اليومية لزوار الفيلا.

تصميم الغرف وتجربة الإقامة
توحيد الرؤية الجمالية عبر المساحات
تضم فيلا دوبروفنيك نحو 56 غرفة وجناحًا تتوزع بطريقة تتيح لكل ضيف تجربة مختلفة من الهدوء والاتصال بالطبيعة. ومع أن معظم الغرف تطل على البحر الأدرياتيكي، فإن التوجه المعماري العام يجعل الإطلالة جزءًا من التصميم لا مجرد ميزة إضافية. فالمساحات الداخلية تتعامل مع الضوء الطبيعي كعنصرٍ أساسي في تكوين الجو العام، مما يعزز الشعور بالسكينة الذي يسعى المشروع إلى ترسيخه.
الحوار بين الضوء والمادة
تعتمد الغرف على خطوط تصميم بسيطة ومواد محلية كالخشب والحجر، ما يخلق توازنًا بصريًا بين الداخل والخارج. وتبرز في بعض الأجنحة الشرفات الواسعة التي تسمح بمشاهدة غروب الشمس فوق جزيرة لوكروم (Lokrum)، لتصبح المشاهدة تجربة تأملية أكثر من كونها ترفًا بصريًا.
التكنولوجيا في خدمة الراحة الهادئة
من ناحية أخرى، توظّف الفيلا التقنيات الحديثة بأسلوب غير استعراضي، مثل أنظمة الصوت المرتبطة بالبلوتوث، التي تتيح للزائر تخصيص أجوائه الصوتية بما يتماشى مع لحظات الاسترخاء أو التحضير للخروج. هذا الدمج بين الراحة المعاصرة والجو الحسي الهادئ يعكس فلسفة التصميم القائمة على التوازن بين التقنية والبساطة.

التراث المحلي في تفاصيل الغرف
دمج الرموز الثقافية في التصميم
تمتاز غرف فيلا دوبروفنيك بوجود لمسات دقيقة مستوحاة من التراث المحلي، حيث تزين الأنماط التقليدية الأغطية والوسائد، مستلهمة من لهجة محلية قديمة كانت شائعة في المنطقة. هذا التوجه يعكس حرص المصممين على الحفاظ على الهوية الثقافية للمدينة داخل كل مساحة داخلية، بحيث يشعر الزائر بأن كل عنصر يحكي قصة المكان.
شعار الفندق وتفسير “ماسكيرون”
حتى شعار الفيلا لا يبتعد عن هذا النهج، إذ يُقدّم تفسيرًا عصريًا لـ«ماسكيرون» (Maskeron) الشهير في دوبروفنيك، وهو زخرفة حجرية تاريخية يمكن ملاحظتها على نوافير وجدران البلدة القديمة. إن إعادة صياغة هذا العنصر التراثي بطريقة حديثة تربط بين التاريخ المعماري للمدينة والفلسفة التصميمية للفيلا، وتخلق تجربة تفاعل بين الضيف والبيئة الثقافية المحيطة.

المساحات العامة: التفاعل بين الفن والضيافة
البار والمطعم كمسرح ثقافي
تُعد مناطق البار والمطعم والمكتبة جزءًا أساسيًا من تجربة الفيلا، إذ تعكس رؤية المعماري آرثر كاساس في خلق مساحات تجمع بين الراحة والفن. هذه المناطق لا تقتصر على كونها أماكن لتناول المشروبات أو الطعام، بل تعمل كمسرح للتفاعل الثقافي والمرئي بين الزائر والمكان.
الأثاث والفن: مزيج بين العالمية والمحلية
يضم الفندق قطع أثاث خالدة صمّمها رموز التصميم العالمي مثل إيلين غراي (Eileen Gray) وجيو بونتي (Gio Ponti)، إلى جانب لوحات ومنحوتات وخزفيات لفنانين كرواتيين. هذا المزج يمنح المساحات العامة جاذبية بصرية تتناغم فيها الأناقة الدولية مع الروح المحلية، ويحوّل كل زاوية إلى تجربة حسية وفنية متكاملة.
الفن كعنصر تصميمي متكامل
من خلال توظيف هذه القطع الفنية والتصاميم الخالدة، لا يُنظر إلى الفن كمجرد زخرفة، بل كعنصر يبني هوية المكان ويعزز تجربة الزائر، في انسجام تام مع فلسفة الفيلا القائمة على الاسترخاء والتفاعل مع البيئة المحيطة.

تجربة الطعام: التقاء الثقافة المحلية والفن المعماري
مطعم بجرين: تذوّق الأصالة المعاصرة
يوفر مطعم بجرين (Restaurant Pjerin) تجربة تناول طعام تجمع بين التقاليد المحلية واللمسة العصرية، عبر قوائم تذوّق متعددة الأطباق أو قائمة à la carte. يستخدم المطعم مكونات محلية طازجة مثل ذيل الكركند، وفيليه التوربوت، والقاروص القادم مباشرة من البحر الأدرياتيكي، ما يعكس الارتباط القوي بالبيئة البحرية المحيطة ودور المكونات الموسمية في صياغة تجربة حسية متكاملة.
مطعم جاردينو: الطعام في قلب الطبيعة
لأجواء أكثر هدوءًا وغير رسمية، يقدم مطعم جاردينو (Giardino Restaurant) تجربة غداء على تراس الفندق وسط أشجار الصنوبر العتيقة مع إطلالة على البلدة القديمة. يمكن للزائر تذوّق أطباق كرواتية أصيلة مثل شبوركي ماكارولي (šporki makaruli) أو ريزوت الحبار الأسود، ما يربط بين النكهات التقليدية والسياق الطبيعي المحيط.
الاسترخاء بعد الطعام: الفن والراحة
تتيح المساحات المحيطة بالبارات الفرصة للاستمتاع بالراحة والتأمل؛ سواء على كراسي مصممي الأثاث العالميين مثل بيير بولين (Pierre Paulin) أو فراتيلي مونتي (Fratelli Monti) بجانب بار ليبيرو (Libero Bar)، أو على سطح الفندق في بار جالانتو (Galanto Bar) حيث يمكن مراقبة غروب الشمس بعد قضاء الوقت في غرفتك الخاصة. يعكس هذا التنسيق اهتمام المعماري بجعل التجربة اليومية جزءًا من السياق البصري والفني للمكان، وليس مجرد وظيفة عملية لتناول الطعام أو المشروبات.

مكان مثالي للاسترخاء: السبا وتجربة العافية
علاجات متكاملة للجسد والعقل
يقدّم السبا في الفيلا مجموعة متنوعة من علاجات الوجه، التقشير، وجلسات التدليك، صُممت لتلبية احتياجات الزائر المختلفة. من أبرزها تدليك “الإكسبيرينس” (Experience Massage)، وهو تدليك كامل للجسم يتم تصميمه وفق متطلبات كل فرد، باستخدام زيوت طبيعية من دلما، لتقديم تجربة غامرة تعزز الاسترخاء والتوازن النفسي.
دمج التراث المحلي والمنتجات الطبيعية
تعكس العلاجات فلسفة المشروع في الاندماج مع البيئة المحلية، إذ تُستخدم منتجات محلية الصنع تشمل وصفات من الصيدلية الفرنسيسكانية الشهيرة في دوبروفنيك، وأعشاب البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب منتجات “سوداشي” (Sodashi) النباتية الخالصة والخالية من أي تجارب على الحيوانات. هذا النهج يربط بين العناية الشخصية والهوية الثقافية والطبيعية للمنطقة.
تجارب مائية وتجديد الطاقة
تكتمل تجربة الاسترخاء بوجود البحر الأدرياتيكي على بُعد خطوات من الفندق، ما يتيح السباحة بعد جلسة السبا أو الاسترخاء في المسبح الداخلي المُدفأ. كما يوفر الفندق ساونا وغرفة بخار لتجديد الحيوية والتعرّق، ما يعزز شعورًا بالراحة التامة ويكمل التجربة الشاملة للعافية الجسدية والنفسية.


✦ تحليل ArchUp التحريري
رغم أن فيلا دوبروفنيك تقدّم نموذجًا واضحًا لدمج البيئة الطبيعية مع فلسفة الاسترخاء، ويُلاحظ الاهتمام الكبير بالمواد المحلية والتفاعل البصري بين الداخل والخارج، فإن بعض جوانب المشروع قد تطرح تساؤلات تتعلق بالوظائف العملية والتكيف مع بيئة متغيرة. على سبيل المثال، التوزيع المكثف للغرف المطلة على البحر يعزز التجربة الحسية، لكنه قد يقلل من التنوع في خيارات الإطلالات أو استخدام المساحات الداخلية بطرق بديلة.
كما أن تركيز التصميم على السكينة والهدوء يعكس فلسفة Fjaka بوضوح، ولكنه قد يجعل بعض المساحات العامة أقل ديناميكية للتفاعل اليومي أو للأنشطة الجماعية، خصوصًا بالنسبة للزائرين الباحثين عن توازن بين الاسترخاء والتجربة الحضرية.
يمكن الاستفادة من هذا المشروع كدراسة حالة لفهم كيفية دمج عناصر الطبيعة والتراث في التصميم المعماري العصري، وكيفية خلق تجربة حسية متكاملة، مع الانتباه إلى أهمية الموازنة بين الجوانب الجمالية والوظيفية لتلبية احتياجات جميع المستخدمين. كما يوفّر المشروع فرصة للمهتمين بالعمارة لاستكشاف العلاقة بين المواد التقليدية والمعمار المعاصر، وكيف يمكن للتفاصيل الصغيرة أن تعزز الانغماس في المكان دون إغفال المتطلبات العملية.
قُدم لكم بكل حب وإخلاص من فريق ArchUp
لا تفوّت فرصة استكشاف المزيد من أخبار معمارية في مجالات الفعاليات المعمارية، و التصميم الداخلي، عبر موقع ArchUp.