قناة هادريان: إحياء تحفة معمارية عمرها 2000 عام لمواجهة أزمة المياه في اليونان
زمة نقص المياه في اليونان تجاوزت مرحلة التحذيرات لتدق ناقوس الخطر. لم يعد التحدي مقتصرًا على موجة الحر والجفاف فحسب، بل امتد ليهدد القطاع الزراعي ويضاعف الضغوط على الموارد خلال مواسم السياحة الكاسحة. في خضم هذه الأزمة، تبرعبقعة أثرية كحلٍ مستدام: قناة هادريان. هذا الصرح المعماري الذي شُيّد قبل ألفي عام، يعود اليوم ليسجل فصلًا جديدًا في تاريخه، مثبتًا أن إجابات بعض تحدياتنا المعاصرة قد تكون متجذرة في عمق تاريخنا.
الجذور التاريخية: إمبراطورية رومانية تبني لغد مستدام
شُقَّت قناة هادريان في القرن الثاني الميلادي (حوالي 118-138 بعد الميلاد) بتكليف مباشر من الإمبراطور الروماني هادريان، لمواجهة الطلب المتزايد على المياه في مدينة أثينا القديمة. وقد مثلت إنجازًا هندسيًا استثنائيًا في عصرها.
· امتداد مذهل: تمتد القناة مسافة 15 ميلاً (ما يعادل 24 كيلومترًا).
· عمر زمني طويل: ظلت القناة مصدرًا حيويًا للمياه لأكثر من 1300 عام، وشاهدًا على حضارات متعاقبة.
· فترات الإهمال والإحياء: توقف العمل بها خلال فترة الاحتلال العثماني، ليعاد إحياؤها مرة أخرى عندما أصبحت اليونان دولة حديثة في القرن التاسع عشر، وذلك لمحاربة نقص المياه المتصاعد. واستمرت في أداء دورها حتى العشرينيات من القرن الماضي، حين حلت محلها منشآت حديثة مثل سد ماراثون.

الوضع الراهن للقناة: كنز معماري خفي تحت المدينة الحديثة
على الرغم من مرور ما يقرب من قرن على توقف استخدامها الرسمي، إلا أن مياه قناة هادريان لم تتوقف أبدًا عن الجريان.
· المسار الحيوي: لا تزال المياه تتدفق من جبل بارنيثا نحو المدينة، مارّة بسبع بلديات هي: أشارنيس، ميتاموفوسي، هيراكليو، ماروسي، هالاندري، بيسيكي، وجزء من بلدية أثينا.
· شبكة الآبار: من أصل 456 بئرًا كانت تشكل الشبكة الأصلية، تم العثور على 390 بئرًا حتى اليوم.
· الوجود المرئي: من هذه الآبار، هناك 228 بئرًا ظاهرًا للعيان، ويمكن العثور على 174 بئرًا في مساحات عامة، مما يشكل نسيجًا أثريًا حيًا تحتفي به المدينة.

مشروع الترميم 2018: رؤية شاملة تجمع بين الماضي والمستقبل
انطلق مشروع الترميم الطموح في عام 2018 بهدف ثلاثي الأبعاد، يحول القناة من مجرد أثر إلى شريك فاعل في التنمية الحضرية:
- الحفاظ على النصب التذكاري: ضمان بقاء هذا الإرث المعماري شاهدًا للأجيال القادمة.
- الاستفادة الوظيفية المستدامة: استخدام مياه القناة مباشرة في الري المحلي، مما يخفف الضغط على شبكات المياه العامة.
- تعزيز التنوع البيولوجي والنظام البيئي: إثراء المساحات الخضراء التي تمر عبرها القناة وتحويلها إلى ممرات حيوية للتنوع البيولوجي.
وقد نجح المشروع حتى الآن في خلق وعي ثقافي واسع من خلال إعادة استغلال المياه وتأهيل المسارات المحيطة بالقناة، وهو ما تم تتويجه بفوز بلدية هالاندري بالجائزة الأولى في المسابقة الدولية السادسة للابتكار الحضري في قوانغتشو (2023)، ضمن فئة “الإدارة المستدامة للتراث الثقافي”.

سابقة أثينية: قناة نموذجًا حيًا للتراث الوظيفي
قناة هادريان ليست الأولى من نوعها في أثينا التي تعود إلى الحياة. فقد تم ري الحديقة الوطنية لأثينا من خلال قناة، التي تم بناؤها في القرن السادس قبل الميلاد ولا تزال تجمع المياه من جبل حتى يومنا هذا. هذا النموذج يثير سؤالًا فلسفيًا وعمليًا بالغ الأهمية: هل يجب أن يظل التراث المعماري المحفوظ قيد الاستخدام الحي، أم يتجمد في الزمن ليصبح مجرد قطعة متحفية؟
نماذج عالمية: عندما يصبح التراث بنية تحتية حية
التجربة اليونانية ليست معزولة، فهناك أمثلة عالمية رائدة تثبت أن دمج التراث في الحياة اليومية ليس ممكنًا فحسب، بل قد يكون أكثر استدامة:
· إيطاليا: قناة “أكوا فيرجو” (Aqua Virgo) في روما، التي بُنيت عام 19 قبل الميلاد، لا تزال تزود بعض نوافير المدينة التاريخية بالمياه.
· إيران وعُمان: أنظمة “القنوات” (Qanat) أو “الأفلاج” التي يصل عمرها إلى 3000 عام، لا تزال تشكل مصدرًا حيويًا للمياه في الزراعة، وهي مدرجة كتراث ثقافي ووظيفي في آن معًا.
· بيرو: لا تزال قنوات الري القديمة ومدرجات الإنكا الزراعية مستخدمة في المناخات القاسية لجبال الأنديز، شاهدة على قدرة الهندسة القديمة على التكيف.
· اليابان: في مدن مثل كيوتو وكانازاوا، لا تزال القنوات توفر المياه للحدائق والمعابد، بل وتُستخدم كأنظمة حديثة للوقاية من فيضانات الأمطار الموسمية.

إعادة تعريف “الحفاظ على التراث”: من التحف الجامدة إلى الشركاء النشطين
تُجبرنا هذه النماذج الناجحة على إعادة النظر في المفهوم التقليدي للحفاظ على التراث. فكلمة “حفظ” ارتبطت تاريخيًا بعزل الآثار عن الحياة اليومية ومعاملتها ككيان هش. لكن الواقع يثبت أن هذه الهياكل غالبًا ما تكون أكثر مرونة ومتكاملة بشكل أعمق مع البيئة من نظرائها الحديثة.
النهج الجديد، الذي تجسده قناة هادريان، يدعو إلى:
· الدمج الوظيفي: تحويل الأثر إلى جزء من حل مشكلات المدينة الحالية.
· الاستعانة بالتكنولوجيا: الجمع بين متانة البنية القديمة والدقة التي توفرها التقنيات الحديثة للمراقبة والصيانة.
· الاستدامة المتأصلة: الاستفادة من الحلول الذكية المتضمنة في هذه الإنشاءات، والتي صممت لتكون متوافقة مع البيئة منذ البداية.
الخاتمة: الماضي كخزان للمستقبل
قناة هادريان لم تعد مجرد خط حجري تحت أقدام مدينة أثينا الحديثة، بل تحولت إلى شريان حياة يساهم بشكل ملموس في مواجهة التحديات البيئية المعاصرة. إنها تقدم درسًا واضحًا للمخططين الحضريين والمعماريين حول العالم: الماضي ليس عبئًا ثقيلًا يجب حمله، بل هو خزان غني للحلول المستدامة. من خلال احترام هذه الآثار وإعادة تخيل دورها، لا نحافظ على التاريخ فحسب، بل نبنى مستقبلًا أكثر مرونة باستخدام أدوات ثبتت كفاءتها عبر آلاف السنين. السؤال الحقيقي لم يعد هو ما إذا كان بإمكاننا استخدام الماضي، بل هل نحن أذكياء بما يكفي لنتعلم منه؟
✦ رؤية تحريرية من ArchUp
يتناول المقال إحياء قناة هادريان الأثرية في اليونان كاستجابة لأزمة نقص المياه، مقدماً نموذجاً لدمج البنى التحتية التاريخية في النسيج الوظيفي للمدن الحديثة. يُلاحَظ أن عملية الترميم تطرح تحديات في التوفيق بين المتطلبات الهيكلية لشبكات الري المعاصرة والقيود الصارمة للحفاظ على سلامة الأثر التاريخي، مما قد يحد من كفاءتها التشغيلية مقارنة بالحلول الحديثة المصممة خصيصاً. ومع ذلك، يتمثل الجانب البناء في إثبات المشروع إمكانية تحويل الأثر التاريخي من كيان جامد إلى عنصر فاعل في البنية التحتية البيئية للمدينة، معززاً بذلك مرونتها في مواجهة التحديات المناخية.
مقدم لكم من فريق تحرير ArchUp
من هنا يبدأ الإلهام. تعمق في الهندسة المعمارية، والتصميم الداخلي، والبحث، والمدن، والتصميم، والمشاريع الرائدة على ArchUp.