في عالم يواجه تحديات بيئية غير مسبوقة، تبرز جامعة نورويتش للفنون كرائدة في مجال الأبحاث المعمارية المستدامة من خلال معرضها المتميز “FibreBroads: Cultivating Sustainable Futures”. يقدم هذا المعرض الرؤى الإبداعية لطلاب ماجستير العمارة الذين يحولون المفاهيم النظرية للزراعة الرطبة إلى حلول عملية ملموسة. تحت إشراف فريق أكاديمي متميز وبتمويل من وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية البريطانية (DEFRA)، تمثل هذه المشاريع الطلابية نقلة نوعية في كيفية تعاملنا مع مواد البناء والنفايات البيئية.
تستكشف الأبحاث المعروضة إمكانات غير تقليدية لمواد مثل القصب والقطن وقشر البيض ومخلفات الشاي والقهوة، محولة إياها من مجرد نفايات إلى موارد بناء قيمة. لا تقتصر أهمية هذه المشاريع على الجوانب التقنية فحسب، بل تمثل رؤية متكاملة للعمارة الحيوية التي تتفاعل بإيجابية مع النظم البيئية. من خلال هذا المقال، سنلقي الضوء على سبعة مشاريع رائدة تعيد تعريف مفهوم البناء المستدام، وتفتح آفاقاً جديدة لمواجهة التحديات البيئية في قطاع التشييد والبناء.
1. تجارب جاكوب تشيري في طوب الألياف الرطبة:-
يعمل جاكوب تشيري على تطوير مواد بناء مبتكرة من الألياف النباتية الرطبة، حيث يركز بحثه على دراسة أنواع مختلفة من النباتات مثل القصب (Phalaris arundinacea) والبردي (Phragmites australis). تمتد أبحاثه لتحليل الخصائص الميكانيكية والفيزيائية لهذه الألياف عند دمجها مع مواد أخرى مثل قشور الذرة (Zea mays). توصل تشيري إلى أن هذه المركبات النباتية تظهر أداءً واعداً عند استخدامها في تصنيع وحدات البناء العازلة أو الألواح الجاهزة.
يستكشف الباحث حالياً إمكانيات تصنيع هذه المواد باستخدام تقنيات متقدمة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، حيث يعمل على تحسين تركيبة المواد من حيث نسب الألياف النباتية والماء لتحقيق أفضل النتائج. تمثل هذه الأبحاث خطوة مهمة نحو تطوير مواد بناء مستدامة قابلة للتطبيق على نطاق واسع في صناعة التشييد.
2. مشروع ثيو جالڤين لإعادة تدوير النسيج:-
ينطلق ثيو جالڤين من أزمة النفايات النسيجية العالمية، مستلهماً حلاً مبتكراً يجمع بين الألياف النباتية والأقمشة القطنية المعاد تدويرها. يركز بحثه على معالجة مشكلة مكبات النسيج الضخمة في أماكن مثل أكرا بغانا، حيث تتراكم ملايين الأطنان من الأقمشة المهملة سنوياً.
يعتمد منهج جالڤين على معالجة ألياف نبات التيفا (Typha) ودمجها مع بقايا الأقمشة القطنية لإنشاء مواد مركبة جديدة. تتميز هذه المواد بخصائص عزل حراري ممتازة، مع إمكانية التحكم في خصائصها الفيزيائية من خلال تعديل نسب المكونات. يستخدم الباحث تقنية الضغط اليدوي لتصنيع نماذجه الأولية، مما يفتح آفاقاً جديدة لتحويل النفايات النسيجية إلى مواد بناء قيمة.
3. أبحاث سام جو في مواد البناء من المخلفات العضوية:-
يتناول سام جو في بحثه تحدي النفايات العضوية الناتجة عن صناعة الأغذية، وخاصة قشور البيض والمحار التي تشكل عبئاً على البيئة. يعمل جو على تطوير مواد بناء مستدامة تجمع بين ألياف نبات التيفا (Typha latifolia) وكربونات الكالسيوم المستخرجة من هذه المخلفات.
تكمن أهمية هذا البحث في تقديمه حلاً مزدوجاً: أولاً، تقليل الاعتماد على الطرق التقليدية لاستخراج كربونات الكالسيوم التي تتطلب طاقة عالية. ثانياً، الاستفادة من المخلفات العضوية التي تسبب مشاكل بيئية عند التخلص منها. يركز المشروع على استخدام المواد المحلية في نورفولك، مما يسهم في خفض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن نقل مواد البناء.
4. أواني الزهور المطبوعة ثلاثية الأبعاد من ماريا هولدين فرنانديز:-
تطور ماريا هولدين فرنانديز مادة حيوية فريدة من نوعها تعتمد على مخلفات الشاي الإنجليزية وألياف التيفا، مصممة خصيصاً للطباعة ثلاثية الأبعاد. يجري البحث اختبارات مكثفة على تركيبات مختلفة من ألجينات الصوديوم والجليسرين والماء لتحسين خصائص المادة.
يهدف المشروع إلى إنشاء منتجات قابلة للتحلل الحيوي يمكنها بعد انتهاء عمرها الافتراضي أن تتحول إلى سماد طبيعي. يدرس الفريق أيضاً التأثير الحمضي لمخلفات الشاي على التربة، مما قد يفتح آفاقاً جديدة لاستخدام هذه المواد في الزراعة الحضرية. تمثل هذه الأبحاث نموذجاً متكاملاً للاقتصاد الدائري في مجال التصميم والتصنيع.
5. جدران حية من بقايا القهوة بواسطة تامسين هيلز:-
تستكشف تامسين هيلز إمكانية دمج عمليات النمو الطبيعي في مواد البناء من خلال مشروعها المبتكر. تعتمد الباحثة على مزيج من الطين وبقايا القهوة وألياف التيفا والقشور المجففة لإنشاء هياكل بناء تدعم نمو النباتات.
يتجاوز هذا المشروع مفهوم البناء التقليدي ليقدم رؤية جديدة للعمارة الحيوية، حيث يمكن للجدران أن تنمو وتتطور مع الزمن. تأخذ هيلز الإلهام من مشاريع رائدة مثل “النمو مع المبنى” (Grow A Building)، مع التركيز على تطوير مكونات بناء قابلة للتركيب تدعم التنوع البيولوجي. تدرس الباحثة أيضاً إمكانية إعادة زراعة هذه المكونات بعد انتهاء عمرها الإنشائي.
6. هياكل صديقة للنحل من إيفان كيجل:-
يواجه النحل حول العالم تهديدات متزايدة بسبب تغير المناخ وفقدان الموائل. يأتي مشروع إيفان كيجل كاستجابة لهذه الأزمة البيئية، حيث يستكشف إمكانية دمج مواد تشبه خلايا النحل الطبيعية (الكيتين) مع ألياف التيفا في تصاميم معمارية.
يركز البحث على تطوير مواد بناء قابلة للتحلل تدعم وجود النحل في المناطق الحضرية. يدرس كيجل إمكانية تصميم وحدات بناء متخصصة يمكنها أن تعمل كملاجئ طبيعية للنحل، مع الحفاظ على المتطلبات الإنشائية للمباني. يمثل هذا المشروع نموذجاً للعمارة البيئية التي تسعى لتحقيق التكامل بين الاحتياجات البشرية والنظم البيئية.
7. هياكل عائمة للسواحل من أسميتا تشاكرابورتي:-
تواجه السواحل في نورفولك تهديدات متزايدة بسبب التآكل وارتفاع مستويات البحر.تعمل أسميتا تشاكرابورتي على تطوير مواد بناء خفيفة الوزن وقادرة على الطفو، مستمدة من مصادر طبيعية مثل ألياف التيفا وراتنج الصنع والأصداف البحرية.
يهدف المشروع إلى تقديم حلول مستدامة لحماية السواحل والمنشآت البحرية، مع التركيز بشكل خاص على الحفاظ على الشعاب الطباشيرية القديمة في نورفولك التي تعتبر نظاماً بيئياً فريداً. تدرس تشاكرابورتي إمكانية استخدام هذه المواد في تطبيقات متعددة مثل حواجز الأمواج العائمة ومزارع الأسماك البحرية. يمثل هذا البحث نموذجاً للتصميم التكيفي الذي يستجيب للتحديات البيئية المتزايدة.
تمثل المشاريع السبعة المقدمة من طلاب جامعة نورويتش للفنون علامة فارقة في مسيرة العمارة المستدامة. هذه الأبحاث ليست مجرد تجارب أكاديمية، بل هي نماذج عملية قابلة للتطبيق تثبت أن المستقبل الأخضر لصناعة البناء ليس ممكناً فحسب، بل هو أيضاً عملي واقتصادي. من طوب الألياف النباتية إلى الجدران الحية القابلة للنمو، ومن حلول إعادة تدوير النسيج إلى هياكل صديقة للنحل، تقدم هذه المشاريع رؤية شاملة لعالم تتكامل فيه المباني مع البيئة بشكل عضوي.
تكمن القيمة الحقيقية لهذه الأبحاث في كونها تقدم حلولاً قابلة للتطوير، تعتمد على مواد محلية ومتجددة، وتقلل من الاعتماد على الموارد التقليدية الملوثة للبيئة. كما تفتح الباب أمام فرص جديدة للتعاون بين المؤسسات الأكاديمية والقطاع الصناعي والجهات الحكومية لتحقيق نقلة نوعية في مجال البناء المستدام. مع استمرار عرض هذه المشاريع في مبنى Boardman House بالجامعة حتى نهاية الفصل الصيفي، فإنها تقدم إلهاماً لأجيال المستقبل، وتؤكد أن الإبداع الأكاديمي يمكن أن يكون حجر الأساس في بناء عالم أكثر استدامة وانسجاماً مع الطبيعة.