Modern futuristic skyscraper with creative design located on streets with residential buildings in London city in evening time against cloudless sky

هندسة برج شارد – الابتكارات الإنشائية في ناطحات السحاب

Home » العمارة » هندسة برج شارد – الابتكارات الإنشائية في ناطحات السحاب

الرؤية المعمارية والتحديات الإنشائية

برج “ذا شارد” (أو القارورة الزجاجية)، هو أطول مبنى في غرب أوروبا. قام المهندس المعماري الإيطالي رينزو بيانو بتصميم البرج في مطلع الألفية. الرؤية المعمارية كانت تقوم على فكرة إنشاء “مدينة عمودية” متعددة الاستخدامات، تندمج بانسجام مع أفق مدينة لندن التاريخي. أولاً، يجب أن يكون الشكل المدبب والزجاجي للبرج شبيهاً بقمم صواري السفن أو الكنائس القوطية القديمة، مما يمنح المبنى هوية بصرية مميزة.

لكن، واجهت هندسة برج شارد تحديات استثنائية. كان الموقع مقيداً للغاية، حيث يقع مباشرة فوق محطة لندن بريدج للنقل. هذا فرض قيوداً صارمة على حركة الإنشاء والبناء والوصول إلى الموقع. بالإضافة إلى ذلك، تطلبت التربة الطينية الناعمة (طين لندن) تحت الموقع أساسات عميقة ومبتكرة. كان الهدف النهائي للمشروع هو بناء هيكل رشيق يبلغ ارتفاعه 309.6 متر (95 طابقاً) ويستخدم الزجاج المائل ببراعة ليعكس السماء وتغيرات الطقس. لذلك، كان على الفريق الهندسي تطوير حلول إنشائية غير تقليدية لتحقيق هذا الارتفاع.

الأساسات العميقة وطريقة البناء الثورية: الإنشاء من الأعلى للأسفل

تُعد مرحلة الأساسات هي الأبرز في ابتكارات هندسة برج شارد. المهندسون استخدموا طريقة “الإنشاء من الأعلى للأسفل” (وهو مصطلح نقيض لطريقة البناء التقليدية). عادةً، يقوم العمال بحفر الأرض بالكامل لإنشاء الأساسات والطوابق السفلية، ثم يبدؤون بناء الهيكل العلوي.

لكن في هذا المشروع، قام المهندسون بدق أوتاد خرسانية عميقة للأساسات. ثم، شرعوا في بناء النواة الخرسانية المركزية لـ 23 طابقاً الأولى في نفس الوقت الذي استمر فيه الحفر تحتها لإنشاء طوابق التسوية (الأقبية). نتيجة لذلك، تم توفير حوالي ثلاثة أشهر من الجدول الزمني الكلي للمشروع، وهذا إنجاز لوجستي ضخم. علاوة على ذلك، قام المهندسون بدمج الأوتاد الجديدة التي يصل عمقها إلى 54 متراً مع الأوتاد القديمة الموجودة في محطة القطار، لضمان استقرار لا مثيل له في التربة الطينية، متجاوزين بذلك تحديات الموقع المعقدة.

تحليل النظام الهيكلي الهجين

اعتمدت هندسة برج شارد على نظام هيكلي هجين ذي كفاءة عالية، يجمع بين قوة الخرسانة ومرونة الفولاذ:

  1. النواة الخرسانية المركزية: تشكل النواة الداخلية الصلبة قلب المبنى، وتعمل كنظام استقرار جانبي رئيسي يمتد حتى الطابق 72. هذه النواة هي المسؤولة عن مقاومة الأحمال الرياحية والزلازل. وتحتوي على المصاعد والسلالم الرئيسية.
  2. الإطارات الفولاذية: استخدم المهندسون إطارات فولاذية مركبة خفيفة الوزن في الطوابق المكتبية السفلية (حتى الطابق 40). سمح الفولاذ بتركيب أسرع ووزن أقل.
  3. الخرسانة المسلحة مسبقة الإجهاد: استخدمت إطارات خرسانية مسلحة ومشدودة لاحقاً في الطوابق العليا، حيث الفندق والشقق. السبب هو أن هذا النوع من الخرسانة كان أنسب للامتدادات الأصغر وقلل من سمك ألواح الأرضيات.

بهذه الطريقة، وفر هذا الهيكل المركب صلابة ومقاومة قوية للحمل الجانبي. لذلك، تطلب الأمر قدراً كبيراً من التنسيق بين المقاولات الخرسانية والفولاذية.

قطة مقربة للبرج الزجاجي والفولاذي المتقطع في قمة ناطحة سحاب، تظهر الإطار الهيكلي والألواح الزجاجية المائلة.
تفصيل قمة الإطار الفولاذي الهيكلي الذي يدعم المستويات الزجاجية المائلة التي تحدد النهاية البلورية المميزة للمبنى.

إدارة قوى الرياح والاهتزاز: تكنولوجيا الاستقرار الديناميكي

تُعد السيطرة على حركة المبنى والاهتزازات تحدياً حيوياً في أي ناطحة سحاب شاهقة، خصوصاً في برج نحيل مثل شارد. لإدارة الحركة الناتجة عن الرياح على ارتفاع 300 متر، اعتمد التصميم على كتلة صلبة في النواة المركزية (التي تساهم في تثبيت الهيكل).

ولكن الأهم، استخدمت هندسة برج شارد نظاماً ديناميكياً للتحكم في الحركة. تم توظيف أجهزة تخميد الحركة (Dampers) لامتصاص طاقة الاهتزاز. كما أن الواجهة الزجاجية المدببة ذات الزوايا الحادة تساعد في تشتيت قوى الرياح وتقليل الضغط عليها بدلاً من مقاومتها بشكل مباشر. وبالتالي، هذا المزيج من الصلابة الهيكلية والنواة الثقيلة والواجهات المشتتة للرياح ضمن سلامة وراحة مستخدمي المبنى في الطوابق العليا.

الإحصائية الهيكلية لبرج شاردالبيانات (تقريبية)الأهمية الهندسية في هندسة برج شارد
الخرسانة المستخدمة54,000 متر مكعبتشير إلى ضخامة النواة المركزية والأساسات.
الفولاذ الهيكلي12,500 طنيدل على خفة ومرونة الإطارات الخارجية.
ألواح الزجاج (Facades)11,000 لوحتعكس رؤية المعماري حول الشفافية والانعكاس.
عدد طوابق التسوية4 طوابق تحت الأرضيدل على عمق أعمال الحفر والأساسات.

المواد والتفاصيل المعمارية: الزجاج الأبيض والكفاءة الطاقية

ركزت هندسة برج شارد على مواد بناء تخدم الكفاءة الطاقية والجمالية.

  1. الواجهة الزجاجية: تم استخدام 11,000 لوح من الزجاج الأبيض الفائق الشفافية. هذا الزجاج المائل (الذي يشبه الشظايا) لا يعكس الحرارة فحسب، بل يغير مظهر البرج باستمرار مع تغير حالة الطقس والإضاءة.
  2. نظام الواجهة المزدوجة: تم تصميم واجهة المبنى كنظام “الجلد المزدوج” أو “القشرة المزدوجة” (Double-Skin Façade). بالإضافة إلى ذلك، تتضمن الواجهة فتحات تهوية طبيعية (Fractures) توفر تهوية طبيعية للحدائق الشتوية الداخلية (Winter Gardens). هذا يقلل بشكل كبير من الاعتماد على تكييف الهواء الميكانيكي، مما يدعم الاستدامة الكلية للمبنى. لمزيد من التفاصيل حول تقنيات البناء المستدام، يرجى الاطلاع على هذه المقالة.
  3. توليد الطاقة المشترك: زود المهندسون المبنى بمحطة مشتركة للحرارة والطاقة (Combined Heat and Power – CHP) تعمل بالغاز الطبيعي. هذه المحطة تحول الوقود بكفاءة إلى كهرباء، ويُستعاد الحرارة الناتجة لاستخدامها في تسخين المياه داخل البرج. لذلك، تعمل هذه التقنيات على تقليل انبعاثات الكربون.
لقطة عمودية لناطحة سحاب هرمية طويلة مكسوة بالزجاج (مبنى شارد) تهيمن على أفق حضري تحت ضوء النهار الساطع.
مبنى شارد: هيكل عمودي بلوري يوضح عامل الشكل المخروطي ونظام الواجهة المعقد المدمج في النسيج الحضري الكثيف لمدينة لندن.
منظر بزاوية منخفضة للغاية للواجهة الزجاجية المخروطية شديدة الانعكاس لناطحة سحاب شارد مقابل سماء غائمة جزئياً.
دراسة انعكاسية للواجهة: نظام الجدار الستائري الزجاجي المائل يلتقط ويعكس الظروف الجوية، مما يؤكد الدفع المحوري الصاعد للهيكل.

التحديات اللوجستية وتجميع الهيكل المدبب

كانت لوجستيات هندسة برج شارد تحدياً بحد ذاتها بسبب الموقع المزدحم والمقيد. كان لا بد من تسليم جميع مواد بناء عبر وسائل النقل العام (القطارات والحافلات) في ساعات خارج أوقات الذروة، ثم رفعها عمودياً.

أما بالنسبة للجزء الأكثر تحدياً، وهو الهيكل المدبب الزجاجي الفولاذي (The Spire) الذي يعطي البرج شكله، فكان هيكلاً فولاذياً مسبق الصنع يبلغ ارتفاعه 60 متراً. قام المهندسون بتجميع هذا الهيكل بالكامل في موقع اختبار بري أولاً. هذا الاختبار سمح للفريق بتحديد وتجاوز أي صعوبات تركيب قبل العمل على ارتفاع 300 متر. بعد ذلك، تم رفع الهيكل المجمع إلى القمة وتركيبه باستخدام رافعات خاصة فوق النواة الخرسانية. تتوقف الواجهة الزجاجية الخارجية عند الطابق 72، وتستمر الأجزاء المدببة الزجاجية (التي لا تحتوي على أرضيات) بارتفاع 18 متراً إضافياً، لتندمج بصرياً مع السماء.

الخلاصة:

يمثل برج “ذا شارد” إنجازاً غير مسبوق في المشاريع المعمارية المدنية الحديثة. يعود نجاحه إلى الحلول الهندسية المبتكرة التي تجاوزت تحديات الموقع والارتفاع، مثل طريقة البناء من الأعلى إلى الأسفل، واستخدام نظام هيكلي هجين ذكي. في الختام، رسخت هندسة برج شارد معياراً جديداً للبناء في المواقع الضيقة، وجمعت بين الوظيفية والاستدامة العالية مع إبداع معماري بصري مذهل. هذا الإنجاز يعكس تفوق الهندسة المعاصرة وقدرتها على إعادة تشكيل الأفق الحضري.

✦ نظرة تحريرية على ArchUp

يتميز برج شارد الشاهق في لندن بتصميمه المعتمد على الطراز الحديث الفائق، ويتجلى تعبير المواد فيه باستخدام نظام هيكلي هجين يجمع بين قلب خرساني صلب وإطار فولاذي خفيف، مع واجهة زجاجية مائلة مزدوجة الجلد. تكمن الفكرة المحورية للمشروع في إنشاء “مدينة عمودية” باستخدام طرق إنشائية مبتكرة، أبرزها أسلوب “التشييد من الأعلى إلى الأسفل” الذي اختصر مدة التنفيذ في موقع بالغ الازدحام. على الرغم من عبقرية الحلول الهندسية التي ضمنت الاستقرار الديناميكي لمثل هذا الامتداد المكاني الرفيع، يبقى النقد موجهاً نحو القيمة الوظيفية للقمة الزجاجية المدببة؛ إذ تشغل هذه القمة حيزاً مهماً من ديناميكيات الفضاء دون أن توفر مساحات مأهولة، مما يثير تساؤلات حول كفاءة استغلال المساحة مقابل التكلفة في هذا الموقع الحضري الحساس. يرسخ هذا المشروع معياراً جديداً في الطموح المعماري لتطوير الأبراج ضمن المواقع المكتظة، لا سيما عبر ابتكاراته المستدامة في التهوية وتوليد الطاقة.

يُثير النقاش المعماري المعاصر تساؤلات حول كيفية تطور العمارة الحديثة من خلال تكامل التصميم المبتكر وأساليب الإنشاء والبناء المتقدمة، مما يعيد تعريف هوية المشاريع العالمية نحو استدامةٍ أكثر وبيئاتٍ أكثر إنسانية.

Further Reading from ArchUp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *