هدم فندق دو لاك في تونس: نهاية أيقونة معمارية وصراع الهوية العمرانية

Home » العمارة » هدم فندق دو لاك في تونس: نهاية أيقونة معمارية وصراع الهوية العمرانية

تشهد العاصمة التونسية فصلًا جديدًا من صراع الهوية العمرانية، حيث أفسح فندق دو لاك (Hotel Du Lac) الأيقوني، المنشأ خلال فترة ما بعد الاستقلال، المجال لمشروع تطويري حديث. هذا الهدم لا يمحو مجرد مبنى من الإسمنت والحديد، بل يمسّ صفحة من تاريخ العمارة التونسية الحديثة، مما أثار سجالاً حادًا بين رواد الحفاظ على التراث المعماري ودعاة التطوير العمراني والاقتصادي. تضع هذه الواقعة العمارة الوحشية في شمال إفريقيا تحت مجهر النقاش العام، مسلطةً الضوء على تحديات الحفاظ على الموروث البنائي في ظل متطلبات العصر.

بصمة معمارية في سماء تونس: تصميم الفندق وأهميته التاريخية

صمم المهندس المعماري الإيطالي رافاييلي كونتجياني (Raffaele Contigiani) فندق دو لاك، والذي تم الانتهاء من تشييده في عام 1973. مثل الفندق، بتصميمه “الهرم المقلوب” المكون من 10 طوابق وبسعة 416 غرفة، جزءًا من مبادرة وطنية طموحة في تونس ما بعد الاستقلال، بهدف تعزيز قطاع السياحة وتقديم صورة عن دولة حديثة ومنفتحة. لم يكن المبنى مجرد مكان لإيواء الزوار، بل تحول إلى شعار للعمارة الوحشية (Brutalism) في المنطقة، حيث تميز باستخدام كتل خرسانية ضخمة وجريئة شكلت علامة بارزة في أفق العاصمة. استضاف الفندق في سنوات نشاطه شخصيات مرموقة، أبرزهم الموسيقي الأمريكي الأسطوري جيمس براون، مما عمق من مكانته كرمز للفترة الذهبية للسياحة في تونس.

Tunis iconic hotel du lac demolished amid heritage concerns and development plans

مسار التدهور والإهمال: من فندق فاخر إلى مبنى مهجور

أدى سوء الإدارة الإدارية على مدى سنوات إلى إغلاق الفندق أبوابه في عام 2000، ليدخل في دوامة من الإهمال والتدهور البنيوي. ظل هذا الصرح الشاهق شاهدًا صامتًا على التحولات التي شهدتها المدينة، بينما كانت طوابقه الفارغة تتعرض لعوامل الزمن. على الرغم من حالة الإهمال هذه، استطاع المبنى أن يحافظ على هيبته المعمارية، مستقطبًا اهتمام عشاق العمارة والمحافظين عليها من حول العالم.

Tunis iconic hotel du lac demolished amid heritage concerns and development plans

معركة الحفظ ضد الهدم: صراع المجتمع المدني مع قرارات التطوير

نجا فندق دو لاك من مصير الهدم مرتين؛ الأولى بين عامي 2010 و 2020، وذلك بفضل جهود حثيثة قادها نشطاء الحفظ والمهندسون المعماريون والمجتمع المدني. بلغت حملات الضغط ذروتها في عام 2022، عندما منحت وزارة الثقافة التونسية المبنى حمايةً مؤقتة، كانت بمثابة بصمة أمل للحفاظ على هذا الإرث. قدم خلال هذه الفترة خبراء ومهندسون معماريون دراسات جدوى ومقترحات لإعادة تأهيل الفندق وإعادة استخدامه، مما يثبت إمكانية دمجه في المشهد الحضري المعاصر دون الحاجة لإزالته. إلا أن هذه الحماية انتهت في أبريل 2023، لتعيد الباب أمام مصير المبنى المحتوم.

قرار الهدم والمشروع الجديد: حيثيات القضاء ووعود التنمية

في 15 أغسطس 2024، بدأت معدات الهدم عملها بموجب أمر قضائي استند إلى تقارير أفادت بعدم استقرار المبنى الهيكلي وعدم أمانه. تمتلك شركة لافيكو (LAFICO) الليبية للاستثمار الموقع منذ عام 2010، وهي تخطط لتنفيذ مشروع تطويري ضخم بتكلفة تقدّر بـ 150 مليون دولار. يتضمن المشروع الجديد إنشاء فندق فاخر مكون من 20 طابقًا ومركزًا تجاريًا حديثًا. أكد مسؤولون، على لسان مويز بن عثمان رئيس المجلس المحلي لباب بهار، أن التصميم الجديد س”يحافظ على الصورة الظلية” للفندق الأصلي تقريبًا، مع الاستفادة من أنظمة إنشاء وتقنيات أكثر تطورًا. كما وعد المشروع بتوفير 435 وظيفة مباشرة، في محاولة لطرح البعد الاقتصادي كمبرر رئيسي للهدم.

Tunis iconic hotel du lac demolished amid heritage concerns and development plans

ردود الفعل والانتقادات: اتهامات بغياب الشفافية وإهمال التراث

واجه قرار الهدم موجة انتقادات حادة من قبل المؤرخين المعماريين والمنظمات غير الحكومية والمهتمين بالتراث. تمحورت هذه الانتقادات حول عدة نقاط أساسية:

· الافتقار إلى الشفافية: حيث لم يتم الكشف عن التصاميم المعمارية للمشروع الجديد للجمهور أو للمختصين للمراجعة والمناقشة.
· إهمال بدائل الترميم: تجاهل المقترحات والدراسات الفنية التي أعدها خبراء لإعادة تأهيل المبنى والحفاظ عليه.
· سرعة إلغاء الحماية: أثار إنهاء الحماية المؤقتة للمبنى في وقت قصير تساؤلات حول جدية الالتزام بدراسة بدائل الحفظ.

وصف المؤرخ التونسي أدادين غالي الفندق بأنه أحد “أفضل 10 جواهر وحشية في العالم”، مما أعطى القضية بُعدًا دوليًا. وسريعًا ما جمعت عريضة إلكترونية لمنع الهدم أكثر من 6000 توقيع، بينما وصفت وسائل إعلام دولية مثل صحيفة لو فيغارو الفرنسية الخسارة بأنها “ضربة للتراث المعماري العالمي”.

Tunis iconic hotel du lac demolished amid heritage concerns and development plans

دو لاك رمزًا: النقاش الأوسع حول العمارة الحديثة في المدن ما بعد الاستعمار

تتجاوز قضية فندق دو لاك مجرد هدم مبنى واحد، لتصبح رمزًا لإشكالية أوسع، وهي محو الإرث المعماري الحديث، وخاصة من فترة الستينيات والسبعينيات، في المدن ذات الخلفية ما بعد الاستعمار. يتم غالبًا النظر إلى هذه المباني، رغم قيمتها المعمارية والتاريخية، على أنها “قديمة” أو “غير مربحة”، مما يجعلها أول الضحايا في مسار التحديث العمراني السريع. يثير اختفاء دو لاك أسئلة جوهرية حول الهوية البصرية للمدن العربية وكيفية موازنة التطور مع الحفاظ على الطبقات التاريخية المتنوعة التي تشكل ذاكرتها الجمعية.

الخاتمة: أيقونة تتهاوي ومستقبل مجهول

مع استمرار عمليات الهدم، تتهاوي أيقونة معمارية كانت شاهدًا على حقبة مهمة من تاريخ تونس الحديث. يمثل مشروع الـ 150 مليون دولار مستقبلًا جديدًا للموقع، لكنه يترك وراءه جرحًا في نسيج المدينة التاريخي وذاكرة سكانها. مصير فندق دو لاك يذكرنا بأن الحفاظ على التراث ليس ترفًا فكريًا، بل هو استثمار في الهوية والذاكرة الجمعية، وأن الحوار بين القديم والجديد يجب أن يكون متوازنًا وشاملًا لجميع الأصوات.


✦ رؤية تحريرية من ArchUp

يتعمق المقال في الإطار الزمني لقرار هدم فندق دو لاك في تونس، مركزًا على الجدل بين قيم الحفاظ على الإرث المعماري الوحشي وبين الحاجة المعلنة للتطوير العمراني. من الناحية المعمارية، يطرح التصميم الهرمي المقلوب للمبنى تساؤلات حول الكفاءة الوظيفية للمساحات الداخلية، حيث أن الشكل غير الاعتيادي قد يؤدي إلى وجود زوايا ومساحات صعبة الاستغلال الأمثل، كما أن الواجهات الخرسانية الشاسعة تزيد من الأحمال الحرارية وتؤثر على كفاءة الطاقة دون وجود معالجات عازلة متطورة في التصميم الأصلي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على نظام إنشائي خرساني بحت يحد من مرونة التعديلات المستقبلية مقارنة بالأنظمة الهيكلية الأكثر تطورًا. ومع ذلك، فإن التصميم الهيكلي المبتكر مكّن من خلق كتلة معمارية متماسكة ذات وجود بصري قوي ومميز في الأفق، مما منحه هوية فريدة.

مقدم لكم من فريق تحرير ArchUp

من هنا يبدأ الإلهام. تعمق في الهندسة المعمارية، والتصميم الداخلي، والبحث، والمدن، والتصميم، والمشاريع الرائدة على ArchUp.

Further Reading from ArchUp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *