السياق العمراني في حي بوكيت تيماه
في حي بوكيت تيماه الراقي في سنغافورة، يتجلى اختلاف واضح في تصميم أحد المباني الخرسانية التي تميز نفسها عن الطراز السائد في المنطقة. فعلى الرغم من أن المنازل شبه المستقلة التي بُنيت في التسعينيات تتميز بواجهات مزخرفة وتفاصيل دقيقة. إلا أن هذا المشروع يتخذ منهجًا مختلفًا ومميزًا.
الابتكار في البناء: تجربة الطباعة ثلاثية الأبعاد
المبنى المعروف باسم “QR3D” هو أول منزل في سنغافورة يتم بناؤه بالكامل باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد. يمتد المنزل على مساحة 6130 قدمًا مربعًا موزعة على أربعة طوابق. ويضم سبع غرف نوم. يمثل هذا المشروع نموذجًا يجمع بين التقنية والوظيفة. حيث لا يقتصر فقط على عرض ابتكاري، بل يسعى ليكون مكانًا للعيش العائلي.
فلسفة التصميم وأهداف المشروع
يشير المهندس المعماري ليم كون بارك، مؤسس مكتب Park + Associates، إلى أن الهدف لم يكن مجرد تجربة تقنية بحتة. فهو يرى أن العمارة المعتمدة على التكنولوجيا غالبًا ما تنحصر بين كفاءة شكلية موحدة أو تصاميم تجريبية تفتقر إلى قابلية العيش. لذلك، كان التركيز على ابتكار تصميم أكثر تعقيدًا ودقة. يعكس احتياجات السكن الواقعية مع استغلال التكنولوجيا بشكل فعّال.
التعاون والتحديات في زمن ما بعد الجائحة
استُهل مشروع “QR3D” عبر تعاون استمر لمدة عامين مع شركة CES_InnovFab المحلية، المتخصصة في الطباعة الخرسانية ثلاثية الأبعاد. جاء هذا التعاون في وقت حاسم. إذ تواجه صناعة البناء في سنغافورة تحديات كبيرة تتمثل في نقص العمالة وارتفاع التكاليف عقب جائحة كورونا. ما دفع للبحث عن حلول تقنية مبتكرة.
منهجية التصميم والبناء
لعب الاهتمام الطويل الأمد للمهندس ليم بمواد وطرق البناء البديلة دورًا محوريًا في هذا المشروع. فقد تعامل مع التصميم كما لو كان منزلًا عاديًا، مع إدخال التعديلات التقنية اللازمة لاحقًا لتناسب متطلبات الطباعة ثلاثية الأبعاد.
تقسيم العمل بين الموقع والمصنع
اعتمد البناء على نهجين متكاملين:
- البناء في الموقع: حيث تم تنفيذ بعض الجدران باستخدام طابعة خرسانة محمية من الأمطار الاستوائية الكثيفة التي تشتهر بها سنغافورة. حيث تُرسّب طبقات متتابعة من الخرسانة.
- البناء في المصنع: تم تشكيل أجزاء أخرى في بيئة مصنعية مسيطرة عليها، ثم نقلها إلى الموقع بواسطة الشاحنات.
هذه الطريقة قلّصت الحاجة إلى أعداد كبيرة من العمال الذين يقومون عادة بمهام تقليدية مثل تركيب القوالب الخشبية، ووضْع الطوب، والجبس، والدهان. مما أدى إلى تبسيط العمليات وتقليل الأعباء.

تحديات تصميم “الأوكولوس” المخروطي
يُعد عنصر “الأوكولوس” في المنزل من أبرز السمات المعمارية. وهو فراغ مخروطي يرتفع لما يقرب من ستة أمتار. لكن هذا التصميم المائل طرح تحديات تقنية كبيرة للفريق. يوضح المهندس ليم كون بارك أن الطباعة المباشرة لهذا الشكل كانت معقدة. إذ أن الخرسانة تميل إلى الانهيار عند الطباعة بزوايا معينة.
ابتكار حلول تقنية عبر الطباعة الجزئية
بدلًا من الاعتماد على خلطات خرسانية سريعة التجفيف غير متوفرة بعد. اعتمد الفريق على استراتيجية مبتكرة. حيث قاموا بطباعة “طوب” أو مكونات صغيرة للأجزاء المائلة. يمكن تجميعها بعد الطباعة. هذا الأسلوب ساعد على تجاوز الصعوبات التقنية المرتبطة بالزوايا الحادة.
منحنى تعلم مرتفع وتجربة فريدة
كانت تجربة العمل بالطباعة ثلاثية الأبعاد جديدة على الفريق، مما استدعى قدرًا كبيرًا من حل المشكلات والتعاون المكثف. أشار ليم إلى ضرورة الارتجال أحيانًا، خاصة في المواقف الصعبة مثل الطباعة قرب الجدران المشتركة التي تحد من حركة فوهة الطابعة. مع ذلك، كان هذا التحدي سببًا في شعورهم بالرضا، لأنهم كانوا يكتشفون الحلول مباشرة أثناء التنفيذ. ما يجعل التجربة فريدة ومليئة بالتعلم.

تبسيط البناء وتقليل الهدر بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد
يشير المهندس ليم إلى أن طرق البناء التقليدية تتطلب تنسيقًا معقدًا بين العديد من المتخصصين، وهو ما يزيد من تعقيد المشاريع وإرهاقه كمشرف. في المقابل، تعمل الطباعة ثلاثية الأبعاد على تبسيط العملية بشكل ملحوظ. من خلال إلغاء الحاجة إلى عدة مراحل عمل متداخلة في بناء جدار واحد. فلا حاجة للقوالب الخشبية، ولا الطوب، ولا الجدران غير المكتملة. مما يقلل من الهدر ويخفض تكاليف العمالة. بالإضافة إلى تقليل الضوضاء، وحركة المرور، والغبار في موقع البناء. هذه الفوائد يمكن أن تكون عوامل محفزة لتبني التقنية على نطاق أوسع في صناعة البناء.
تصميم ذكي لتنظيم المناخ الداخلي
يتميز هذا المنزل بنظام طبيعي وبسيط لتنظيم درجة الحرارة. يتكيف مع مناخ سنغافورة الاستوائي دون الحاجة لأنظمة تكييف معقدة. يعد “الأوكولوس” عنصرًا معماريًا فريدًا. لا يقتصر دوره على الجمال فقط، بل يؤدي وظيفة عملية مهمة. حيث يسمح بدخول الضوء الطبيعي ويساعد في رفع الهواء الساخن إلى الأعلى ليتم إزالته عبر مروحة شفط توربينية سلبية. ما يسهم في تحسين التهوية الداخلية.
بعد عاطفي يتجاوز الوظيفة المعمارية
يحمل “الأوكولوس” أيضًا قيمة عاطفية مهمة داخل المنزل. يصف ليم كيف أن منطقة تناول الطعام الواقعة تحت هذا الفراغ المخروطي تتمتع بجو متغير مع اختلاف الضوء. حيث يصبح دراميًا أثناء العواصف الرعدية، وتأمليًا عند الغروب. مما يضفي طابعًا شخصيًا وحيويًا على هذه المساحة، ويجعل كل وجبة تجربة مختلفة في تفاعلها مع الضوء والجو المحيط.

تصميم داخلي يتناغم مع الفراغ المركزي
يتكشف المنزل كسلسلة منسقة بعناية، حيث ترتبط كل مساحة بالفراغ المركزي الكبير المتمثل في الأوكولوس. تتدرج مستويات الأرضيات وتتغير بشكل مدروس، مما يخلق تباينًا بين إحساس الضغط والانفراج في المساحات المختلفة. كما تتفاوت ارتفاعات الأسقف بين 9.5 قدم في التراس الداخلي لإضفاء جو حميمي، و16.5 قدم في مكان تجمع العائلة ليمنح شعورًا بالاتساع والحرية. تظهر لمحات من الأوكولوس في زوايا غير متوقعة، لتوجه انتباه القاطنين داخل الغلاف الخرساني وتعزز الشعور بالترابط بين الفراغات.
استخدام المواد والتشطيب: سرد للاستدامة
تعكس المواد المستخدمة في البناء اهتمامًا ملحوظًا بالاستدامة دون أن تكون مزعجة أو متكلفة. حيث تعمل الخرسانة الهيكلية بتناغم مع العناصر المطبوعة ثلاثية الأبعاد، وتتنوع الأرضيات بين بلاط كبير الحجم، ومركبات معاد تدويرها، وخشب هندسي معالج. أما أرضية غرفة البودرة فتتميز باستخدام شظايا الرخام المهملة. وهي قطع من مخلفات مورّد محلي. مما يضيف لمسة بيئية ومادية فريدة.
اعتبارات بيئية ذكية في التصميم الخارجي
لم يغفل التصميم الاعتبارات البيئية المهمة. حيث تعمل الواجهة الغربية كجدار مشترك مع المنزل المجاور. ما يحمي المساحات الداخلية من أشعة الشمس القاسية خلال فترة بعد الظهر. كما تساهم القناطر العميقة في توفير الظل للمناطق المواجهة للجنوب الشرقي. فيما تقلل الفتحات المحدودة في غرف النوم من كسب الحرارة. الأمر الذي يحسن كفاءة تبريد المنزل. بالإضافة إلى ذلك، يستفيد التصميم من سخان ماء مزود بضخ حرارة يُطلق هواءً باردًا كمنتج ثانوي إلى مساحات الطابق العلوي. مما يعزز من الراحة الحرارية.

كشف التكنولوجيا بدلاً من إخفائها
ما يميز هذا المشروع هو موقف المهندس المعماري ليم من التقنية المستخدمة، حيث يرفض إخفاء التكنولوجيا خلف التشطيبات التقليدية. فالأسطح المخططة التي تظهر طبقات الخرسانة المطبوعة بوضوح، تشبه الطبقات الجيولوجية، تُترك مكشوفة دون أي جص أو دهان يغطيها. هذا الاختيار يعكس توجهًا مختلفًا في العمارة. بعيدًا عن الهوس بالتشطيبات المصقولة الكاملة، بل احتفاءً بعملية البناء نفسها كجزء من التعبير المعماري.
قراءة البناء كوثيقة
يشرح ليم هذا المفهوم قائلاً: «يمكنك حرفيًا قراءة كيف تم بناء هذا المنزل.» حيث تصبح الطبقات المرئية بمثابة سجل بصري لعملية الإنشاء، مما يعزز فهم المشاهد للعملية التقنية والفنية وراء البناء.
الطباعة ثلاثية الأبعاد كخطوة في مسار مستقبلي
يمتد تعليم ليم المعماري بين سنغافورة والمملكة المتحدة، حيث درس في الجامعة الوطنية بسنغافورة وجامعة شيفيلد وبارتليت في UCL. يرى في مشروع QR3D خطوة أولى ضمن رحلة طويلة نحو دمج تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في العمارة الحضرية. من خلال المشروع، أراد إثبات عدة أمور رئيسية:
- إمكانية نجاح الطباعة ثلاثية الأبعاد في مشاريع معمارية معاصرة في المدن.
- قدرتها على خلق مساحات ذات جودة عالية وطابع إنساني وعاطفي.
- أن التكنولوجيا الحديثة هذه يمكن أن تساهم في بناء منازل تظل ملائمة وقابلة للاستخدام لعدة عقود.

التعليم والبحث ركيزتا تقدم التكنولوجيا
يؤكد ليم أن التكنولوجيا اللازمة للطباعة ثلاثية الأبعاد متوفرة حاليًا. ولكنه يشدد على أن ما ينقص هو الجهود المكثفة في مجالات التعليم، والتوعية، والبحث والتطوير. هذه العوامل ضرورية لتحقيق زخم وانتشار أوسع لهذه التقنية في العمارة التقليدية والسائدة.
تنوع المشاريع وتوسيع الأفق
يمتد عمل مكتب ليم إلى مشاريع متنوعة وغير تقليدية، تتراوح بين مجمعات متعددة الأجيال في سنغافورة، وملاذات بيئية في أماكن طبيعية مثل جبل “العملاق النائم” في فيجي، إلى مجمعات ترفيهية في السعودية. هذا التنوع يعكس رغبة في استكشاف تطبيقات متعددة للتقنيات الحديثة ضمن سياقات معمارية مختلفة.
QR3D: تقدم تقني يحمل بصمة إنسانية
مع مشروع QR3D، استطاع ليم أن يبتكر نموذجًا فريدًا يجمع بين الابتكار التكنولوجي واللمسة الإنسانية الدافئة. يوصف المشروع بأنه «قصيدة خرسانية» تحتفي بالابتكار والذاكرة معًا. مستخدمة لغة العمارة لتجسيد مفهوم «المنزل» كمكان يحمل بين طياته الحميمية والتجربة الحسية. بعيدًا عن مجرد الإنجاز التقني.