مقدمة
في أحدث حلقاته بعنوان “الترميم”، قدم أحمد الغندور (الدحيح) طرحًا معماريًا مميزًا، حيث تناول موضوع ترميم المباني من منظور فلسفي وتاريخي ومعماري. بأسلوبه الشيق والمميز، استطاع أن يأخذنا في رحلة عبر الزمن، ليفسر كيف تتغير المباني بعد الترميم، ولماذا يتم ترميم بعض المباني التي لا تحمل قيمة تاريخية كبيرة.
الحلقة لم تكن مجرد عرض للمعلومات، بل كانت تحليلًا معمقًا مدعومًا بالمصادر، حيث ناقش مفهوم الحفاظ العمراني وفقًا لميثاق البندقية، وتحدث عن أمثلة عالمية لعمليات الترميم والتجديد، وربط ذلك بفكرة البساطة النبيلة والعظمة الهادئة التي تجمع بين العظماء في مختلف العصور.
الترميم: عودة للماضي أم إعادة ابتكار؟
يطرح “الدحيح” في بداية الحلقة تساؤلًا جوهريًا: هل يتغير المبنى بعد ترميمه، أم يعود إلى سابق عهده؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام نقاش فلسفي معماري حول مفهوم الترميم. هناك عدة مدارس فكرية في هذا المجال:
- الترميم المحافظ (Conservation Restoration): يهدف إلى إعادة المبنى إلى حالته الأصلية، كما كان عند بنائه، دون إضافة أي عناصر حديثة.
- الترميم التكيفي (Adaptive Reuse): يحافظ على العناصر التاريخية، لكنه يسمح باستخدام المبنى بطريقة حديثة، مثل تحويل الكنائس القديمة إلى مكتبات أو مسارح.
- إعادة البناء (Reconstruction): إعادة بناء مبانٍ تاريخية بالكامل بعد تدميرها، كما حدث في مدينة وارسو بعد الحرب العالمية الثانية.
الحلقة تضمنت إشارات إلى ميثاق البندقية لعام 1964، الذي يعتبر أحد أهم الوثائق المرجعية في الحفاظ العمراني، حيث يحدد مبادئ التعامل مع المباني التراثية، ويوضح الفرق بين الترميم، الحفاظ، وإعادة البناء.
أمثلة معمارية لعمليات الترميم
من خلال استعراضه للمصادر، قدم “الدحيح” أمثلة واقعية لمشاريع ترميمية أثارت الجدل، ومنها:
- كاتدرائية كوفنتري في إنجلترا، التي تعرضت للقصف خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تم دمج أطلالها في تصميم حديث ليحافظ على رمزيتها التاريخية.
- إعادة بناء مدينة وارسو بالكامل بعد الدمار الناجم عن الحرب العالمية، حيث تم الاستناد إلى اللوحات الفنية لإعادة إنشاء المباني وفق تصميمها الأصلي.
- ترميم وتجديد ميناء أنتويرب، حيث تم الحفاظ على الهيكل الأصلي وإضافة عناصر حديثة تواكب احتياجات العصر.
- مسجد أبو الحجاج في الأقصر، الذي تم بناؤه فوق معبد فرعوني قديم، مما خلق حالة نادرة من التعايش بين الحضارات المختلفة في مبنى واحد.
- معبد خنوم في إسنا، حيث كشفت عمليات الترميم الحديثة عن تفاصيل لم تكن معروفة من قبل، مما أعاد تسليط الضوء على تراث معماري مهم.
البساطة النبيلة والعظمة الهادئة: الرابط المشترك بين العظما
أحد أكثر الأجزاء الفلسفية في الحلقة كان حديث “الدحيح” عن الرابط المشترك بين العظماء عبر العصور، والذي وصفه بأنه “البساطة النبيلة والعظمة الهادئة”. هذا المفهوم ينطبق بشكل مباشر على المعمار الكلاسيكي، حيث أن المباني العظيمة ليست بالضرورة الأكثر زخرفة أو تعقيدًا، بل هي تلك التي تحقق تناغمًا بسيطًا بين الجمال والوظيفة.
على سبيل المثال، العمارة اليونانية والرومانية اعتمدت على نسب مثالية وبساطة تصميمية جعلتها خالدة حتى اليوم. كما أن المباني الإسلامية الكلاسيكية مثل مسجد السلطان حسن في القاهرة، تتميز بأناقتها البسيطة التي تعكس عظمتها الهادئة.
كيف تهم هذه الحلقة المعماريين؟
الحلقة لم تكن مجرد عرض نظري، بل قدمت مجموعة من الأفكار التي يمكن للمعماريين الاستفادة منها، ومنها:
- فهم فلسفة الترميم: المعماري لا يصمم فقط، بل يجب أن يفهم كيف يمكن الحفاظ على المباني وإعادة استخدامها بذكاء.
- الاستفادة من التراث في التصميم الحديث: إعادة تفسير العناصر التاريخية في سياقات معاصرة يعزز من قيمة المباني الجديدة.
- أهمية السياق الثقافي: أي مشروع ترميم يجب أن يأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والثقافي للمبنى، وليس فقط الجوانب التقنية.
- العمارة ليست مجرد بناء، بل هي ذاكرة جماعية: المباني تروي قصص المجتمعات، وترميمها يجب أن يتم بأمانة واحترام لهذه القصص.
خاتمة: حلقة غنية تستحق الاهتمام
حلقة “الترميم” لـ الدحيح كانت أكثر من مجرد حلقة ترفيهية، بل كانت محاضرة معمارية ثرية. تناولت موضوعات التاريخ، الفلسفة، والهندسة المعمارية بطريقة مشوقة وسلسة. لم تكن مجرد سرد للمعلومات، بل كانت تحليلًا معماريًا عميقًا مدعومًا بالأمثلة والمصادر الأكاديمية.
إذا كنت معماريًا أو مهتمًا بالتراث العمراني، فإن هذه الحلقة كنز معرفي يمكن أن يلهمك لفهم أعمق لكيفية تعاملنا مع المباني التاريخية، ولماذا الترميم ليس مجرد إعادة بناء، بل هو فن يحافظ على روح المكان.
📌 شاهد الحلقة الكاملة على يوتيوب:
🔗 الدحيح – الترميم