روح التجريب والعيش المفتوح في جزيرة إلبا
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، شرع المعماري والفنان جياني بيتينا في مشروع شخصي غير تقليدي على جزيرة إلبا الإيطالية. لم يكن هذا المشروع، الذي أطلق عليه لاحقًا اسم “منزلي في إلبا” (La Mia Casa all’Elba)، مجرد محاولة لبناء مسكن دائم، بل كان تجربة حيّة في فهم العلاقة بين الإنسان والمكان، وهذا لبناء المنزل كمجال للتصميم التجريبي.
تكوين بطيء ومتشعب
لم يتبع البيت مسار البناء التقليدي؛ بل تكوّن تدريجيًا، عبر سنوات، من أجنحة ومسارات وجدران تنمو وتتغير. التصميم لم يكن وحده ما شكّل البيت، بل كانت الطبيعة المحيطة أيضًا فاعلًا أساسيًا في تشكيل هذا الكيان. يمكن وصف المنزل بأنه مشروع مفتوح النهايات، يتحول مع مرور الوقت، ويتفاعل مع البيئة المحلية وسكانه المتغيرين.
من الإلهام الشخصي إلى التجسيد المعاصر
هذه التجربة الفريدة ألهمت جوزيف غريما وفالنتينا تشوفي في معرضهما الجديد الذي يحمل عنوان “مسرح الأشياء“ (The Theatre of Things). يسعى المعرض، المستضاف حاليًا في صالة Delvis (Un)limited بمدينة ميلانو، إلى ترجمة روح “منزلي في إلبا” إلى مساحة معاصرة تمزج بين التصميم، والفن الحي، والتجربة الشخصية.
تجربة معيشية لا مجرد عرض
الهدف من المعرض ليس فقط عرض تصاميم قابلة للاقتناء، بل تقديم نموذج بديل للعيش مع التصميم، حيث تصبح القطع الفنية جزءًا من الحياة اليومية لا مجرد عناصر للعرض. هذا المفهوم، الذي يجمع بين الوظيفة والجمال والتفاعل، يطرح تساؤلات حول حدود التصميم كفن، ويعيد النظر في معنى “المنزل” كمكان يحتضن الإبداع والتجريب.
العيش كأداء فني: تجربة يومية داخل مساحة عرض
في قلب معرض مسرح الأشياء، تتجسد فكرة “العيش مع التصميم” بأكثر الطرق حميمية ومباشرة. ففي وسط الفضاء، وُضع سرير منجّد تحيط به ثريا مصنوعة من ألياف اللوف، صممته جماعة Espace Aygo البلجيكية. هذا التكوين لم يكن مجرد جزء من ديكور، بل كان عنصرًا رئيسيًا في تجربة فريدة.
تصميم يُعاش لا يُعرض فقط
من 7 إلى 12 أبريل 2025، تحوّلت واجهة متجر صغيرة في حي بريرا بميلانو إلى مسكن مؤقت مفروش بأعمال مختارة لسبعة مصممين معاصرين. لم يكن العرض تقليديًا، بل دعوة للغوص في تجربة حياتية، حيث يبيت كل يوم أحد المصممين داخل المعرض، مرئيًا للجمهور من خلال النوافذ الكبيرة المطلة على الشارع.
وفي الصباح، ينضم إليهم صحفي أو قيّم فني أو ناقد، ليبدأ يومًا من الحوارات الصباحية غير الرسمية حول التجربة، التصميم، والعلاقة بين الفن والحياة.
فضاء التصميم كمسرح مفتوح
هذا الشكل غير المألوف من التفاعل بين المصمم، العمل الفني، والجمهور، يعكس رؤية غريما وتشوفي التي تتجاوز حدود العرض التقليدي. فبدلًا من التأمل عن بعد، يُطلب من الزائر (وحتى المارّة) أن يكون جزءًا من القصة – كمشاهد، أو كمشارك، أو كمراقب لحظة حميمية تحدث في العلن.
المصممون والقطع: تنوع في الأسلوب، وحدة في الهدف
ضم المعرض أعمالًا لعدد من المصممين المتنوعين، من بينهم:
- Objects of Common Interest
- ليندي فريا تانغيلدر
- Espace Aygo
- ريتش أيبار
- لوريدس غاليه
- ستيفانيا روجييرو
- نيكي داناي
كل منهم ساهم بقطعة تعبّر عن فكرته في “العيش مع التصميم”، سواء من خلال الأثاث، أو الإضاءة، أو عناصر الزينة.
تفاصيل التصميم: بين السكينة والانسيابية
في صباح زيارة فريق Wallpaper، جلس الثنائي إيليني بيتالوتي وليونيداس ترامبوكيس (من استوديو Objects of Common Interest) يحتسون القهوة داخل السرير ويتحدثون عن ليلة هادئة مرّت دون تدخل المتطفلين. تحدثا عن أهمية العيش بين أشياء تحكي قصة، عن ذكريات، عن هوية.
أما القطع الأخرى فكانت لا تقل شاعرية. كراسي ومصابيح وأوعية مطاطية من تصميم ريتش أيبار أضافت ليونة حسية للمكان، بينما رف خشبي من تصميم لوريدس غاليه عُرضت عليه كتب فنية وأقراص DVD لمسلسل Sex and the City، في إشارة لربط الحياة اليومية بالثقافة البصرية.

أشياء لها وزنها الرمزي: بين المطاط والخشب والكروم
من بين أبرز القطع المعروضة، جاء كرسي “Slug”، الذي صممه ريتش أيبار، والمصنوع بالكامل من المطاط المصبوب، كجسم عضوي يستقر بثقل ناعم على الأرض. إلى جانبه، وُضع رف من خشب الكرز، صممه لوريدس غاليه، ومزخرف بتفاصيل كرومية دقيقة تضيف إليه طابعًا حداثيًا دون أن تفسد دفء الخامة الطبيعية.
كل قطعة هنا لم تكن غرضًا فقط، بل كانت تعبيرًا عن رؤية، عن هوية، عن إحساس ملموس يمكن العيش معه.
ما الذي يجعل شيئًا منزليًا؟
تلك هي أحد الأسئلة الجوهرية التي طرحها المعرض، بحسب نصه الرسمي. فقد تناول مسرح الأشياء موقع التصميم القابل للاقتناء، وكيف يمكن أن يكون في آنٍ واحد مجهودًا فنيًا وموضوعًا للنقاش المجتمعي، متسائلًا:
“ما المعنى الحقيقي لفكرة المنزل؟”
وهل المنزل هو فقط الجدران والفرش، أم أيضًا الحوار، التفاعل، الحضور الحي؟
صوت من الداخل: فالنتينا تشوفي تتحدث عن التجربة
للاقتراب من خلفيات هذه الفكرة، أجرت Wallpaper حوارًا مع القيّمة الفنية فالنتينا تشوفي، التي قدّمت رؤيتها عن طبيعة التجربة داخل هذا المشروع غير المألوف.
مساحة تأمل في وسط الضجيج
Wallpaper*: وسط زخم أسبوع التصميم وعروض الأسماء الكبيرة، بدا أن مسرح الأشياء هو مساحة هادئة للتفكر والتفاعل الحميمي. هل كان هذا مقصودًا فعلًا؟
فالنتينا تشوفي: “عادةً ما أكون في حالة ركض مستمر خلال أسبوع التصميم – بين الفعاليات، الاجتماعات، وكل ما يجب أن يُرى. لكن هذا العام، منحني مسرح الأشياء إيقاعًا صباحيًا خاصًا، لم أستطع مقاومته.”
تشوفي وصفت كيف أن المعرض تحوّل بالنسبة لها إلى لحظة شخصية يومية، حيث كانت تنوي حضور جلسة واحدة فقط، لكنها وجدت نفسها تعود مرارًا، لتبدأ يومها من هناك قبل الانخراط في الوتيرة المحمومة لبقية الفعاليات.
ما لم يكن مخططًا له… لكنه حدث
بالنسبة لتشوفي، لم يكن هذا الأثر العاطفي الهادئ نتيجة مخططة بدقة، بل أثرًا جانبيًا جميلًا لما كانوا يأملون أن يحدث. تلك اللحظة من التباطؤ، من التواصل الحقيقي، من الإحساس بالمكان لا فقط بمحتواه.

🔗 اقرأ أيضًا:
مقاعد صخرية وهمسات استوائية: التصميم كحكاية متعدّدة الحواس
من بين المفاجآت التي احتضنها مسرح الأشياء، قدّم استوديو Objects of Common Interest – الذي يتخذ من نيويورك وأثينا مقرًا له – قطعتين لافتتين:
- مقعدا “Lithos III”، بتصميم يذكّر بالصخور المصقولة بفعل الزمن.
- وخزانة بار باسم “Holy Mountain”، بلون وردي يشبه العلكة، تتضمن مكبر صوت مدمج يبث بشكل مباشر أصوات الغابات المطيرة في الأمازون.
وكأنها دعوة صامتة للغوص في الطبيعة وسط فضاء منزلي مصطنع، أو ربما تذكير بأن الأشياء – مهما بدت جامدة – يمكن أن تُنطق بالصوت وتعبّر بالحس.
تجربة متعددة الطبقات: من اللعب إلى التأمل
عند سؤالها عن نوعية الأحاديث التي دارت خلال الأسبوع، وصفت فالنتينا تشوفي الحوار بأنه كان متنوعًا بقدر تنوع المشاركين:
“بعض الحوارات كانت مرحة، أشبه بجلسات أصدقاء يعرفون بعضهم منذ زمن، بينما كانت هناك لحظات أخرى تأملية جدًا، خاصة مع الصحفيين الذين جاؤوا بأسئلة حقيقية وفضول فكري.”
ربما كان سرّ نجاح هذه اللقاءات هو كون الفضاء نفسه ليس صامتًا، بل مشحونًا بالمعنى والنية، ما جعل المحادثات تنطلق من القطع ذاتها لا من سياقات مفروضة مسبقًا.
عندما يصبح المنزل مسرحًا
لكن ما الذي أراد المعرض أن يقوله عبر هذه التجربة؟
وفقًا لتشوفي، كان الهدف أن يُظهر كيف يمكن لـ”التصميم القابل للاقتناء” أن يحوّل المساحة المنزلية إلى مسرح – ليس فقط مكانًا للعيش، بل ساحةً تروى فيها القصص من خلال الأشياء.
“عندما تملأ منزلك بقطع تثير التساؤل، فأنت في الحقيقة تستخدم الأثاث كأداة سردية.
أما ما فعلناه نحن، فكان أن قدّمنا هذه السردية على خشبة مسرح حقيقية – وجعلنا المصممين أنفسهم جزءًا من الأداء.”
فما النتيجة؟
بحسب تشوفي: “نجحت التجربة.”
ليس فقط في تقديم مساحة عرض فنية، بل في اختبار كيف يتفاعل الجمهور مع المصمم، ومع القطعة، ومع الفكرة الكامنة خلفها، في لحظة يعيش فيها التصميم بكل جوارحه، لا كشيء يُنظر إليه فقط، بل كحالة تُعاش وتُحكى.

دفء البرونز ونوافذ المدينة: عن المكان كجزء من الحكاية
في زاوية هادئة من مساحة العرض، يقف مصباح “طبقة فوق طبقة“ (Layer over Layer) شامخًا.
صنعته الفنانة والمصممة الهولندية ليندي فريا تانغيلدر من البرونز الأبيض المصبوب، وجعلته يبدو كأنه حارس صامت بجوار كرسيها الأيقوني “نحت النماذج الأولية“ (Sculpting Archetypes).
بينما تمتد على الأرض سجادة “نار المخيم“ (Bonfire) للفنانة ستيفانيا روجييرو، فتضيف ملمسًا حميميًا ودفئًا بصريًا يوازي دفء المشاعر.
هنا لا تُعرض القطع كأثاث فني فحسب، بل كعناصر تؤثث الحضور وتُفعّل الذاكرة والخيال. كل قطعة تحجز لنفسها دورًا في مشهدٍ مسرحي متعدد الأبعاد.
الفضاء الذي يتنفس: ميلانو كعنصر مشارك
حين سُئلت فالنتينا تشوفي عن أثر المكان على تجربة مسرح الأشياء، أجابت بنبرة تأملية:
“المساحة هذه صغيرة الحجم، لكنها مفتوحة بالكامل على المدينة – نوافذها تطل على قلب ميلانو النابض، كأنها تسمح للمدينة بأن تتدخل، تتنفس، وتتأمل معنا.”
وهذا الانفتاح، الذي لا تتيحه المعارض النموذجية في القاعات المغلقة، كان أحد أسرار النجاح.
فالمعرض لم يعزل نفسه عن حركة الحياة اليومية؛ بل تماهى مع الإيقاع الحضري، وسحب زواره إلى لحظات من الهدوء وسط زخم المدينة.
ليس نهاية، بل بداية مفتوحة للتأمل
لكن، هل تنتهي هذه التجربة بنهاية أسبوع التصميم؟ تقول تشوفي بثقة:
“لن أكرر هذه التجربة بالضبط داخل Delvis (Un)Limited، لأنني سأعمل على تنسيق برنامجه طوال العام – وهو أمر متحمسة له جدًا – لكن مسرح الأشياء لم ينتهِ بعد.”
فالمعرض سيظل مفتوحًا حتى يوليو، وستستمر الدعوات للمبيت في المساحة المطلة على الشارع، وهي تجربة عاشتها تشوفي بنفسها.
وفي كلماتها، تلميح واضح بأن الزمن عنصر فاعل في المعرض، وأن بعض التجارب لا يمكن حصرها في أيام أو أسابيع، بل تعيش في التفاعل المستمر، في الزيارات غير المخطط لها، وفي تلك اللحظات التي يتحول فيها التصميم إلى تجربة شخصية.









