Doshi Retreat at Vitra, a pavilion made of corten steel and minimalist forms seen in the green countryside

العمارة والتجربة الحسية: قراءة في منتجع دوشي

Home » الأخبار » النقاشات المعمارية » العمارة والتجربة الحسية: قراءة في منتجع دوشي

إرث فيترا المعماري: مسيرة من “الأوائل

على مدار السنوات، راكم مجمع فيترا في مدينة فايل أم راين سلسلة من الإنجازات المعمارية الفريدة، حتى أصبح بمثابة متحف حيّ لتطور الفكر التصميمي العالمي. فقد احتضن المبنى الأول للمعمارية مارينا تبسوم خارج بنغلاديش، ومتحف فيترا للتصميم الذي كان أول مشروع لـ فرانك غيري خارج الولايات المتحدة، إضافة إلى محطة إطفاء فيترا التي دشّنت المسيرة العالمية للراحلة زها حديد.

هذه المحطات لا تمثل مجرد مبانٍ، بل تؤرخ لرحلات معمارية غيّرت مفاهيم الفضاء والعلاقة بين الإنسان والمكان.

منتجع دوشي: ختام مسيرة بحجم البدايات

في أحدث إضافة إلى هذا المجمع المتنامي، برز منتجع دوشي” (Doshi Retreat)، وهو تركيب تأملي جديد يجسد فلسفة المعماري الهندي بالكريشنا دوشي، الحائز على جائزة بريتزكر عام 2018.
جاء تصميم المشروع بالتعاون مع حفيدته خوشنو بانثاكي هوف وزوجها زونكه هوف، ليحمل بصمة عائلية تعبّر عن تواصل الأجيال في خدمة المعمار.

ما وراء الشكل: رمزية الوداع في عمله الأخير

يقع الهيكل وسط حقل أخضر مجاور لجناح المؤتمرات الذي صمّمه تاداو أندو، في انسجامٍ بصري وروحي مع الطبيعة المحيطة.
ويمثل المنتجع أول مشروع لدوشي يُنفّذ خارج الهند، وكذلك أول عملٍ يُستكمل بعد وفاته عام 2023، ما يجعله بمثابة خاتمة رمزية لمسيرته في الحداثة المعمارية، وإيماءة أخيرة إلى فلسفته التي تمزج التأمل بالبساطة والوعي المكاني.

الدخول إلى منتجع دوشي: تكريم يتجاوز الحجر

يُعد منتجع دوشي أكثر من مجرد تركيب معماري؛ إنه تحية روحية لإرث بالكريشنا دوشي، المعماري الذي جعل من الفضاء تجربة حسية وروحية في آنٍ واحد.
فقد أراده مكانًا يتيح للزائر التأمل والصمت والاتصال بالذات، رحلةً تستند إلى الصوت والمشاعر قبل الشكل والكتلة.

البذرة الأولى: صداقة ألهمت فكرة “مساحة الصمت

تعود قصة المنتجع إلى زيارة أجراها رولف فِهلباوم، الرئيس الفخري لشركة فيترا، إلى الهند قبل سنوات، حيث رافقه دوشي في جولةٍ لمعبد الشمس في موديرا.
تروي خوشنو بانثاكي هوف، حفيدة دوشي، أن تلك الرحلة تركت أثرًا عميقًا في نفسيهما، خصوصًا حين دخلا مزارًا صغيرًا ضمن المعبد، حيث ساد صمتٌ يحمل معنى الطمأنينة.

بعد تلك التجربة، طلب فِهلباوم من دوشي أن يصمّم مساحة للصمت داخل مجمع فيترا، تجسّد ذات الإحساس الروحي الذي وجده داخل المزار الهندي القديم.

من المفهوم إلى الشكل: ولادة الفكرة

بدأ دوشي العمل من مجموعة مفاهيم وكلمات مفتاحية سعى من خلالها إلى تقطير جوهر المشروع ومعناه.
وحين عرض فكرته على حفيدته قال ببساطة:

“ها هو، هذا هو المنتجع.”

من هذه اللحظة، بدأ المشروع يتبلور كتجربة معمارية جماعية صاغها دوشي بمشاركة خوشنو بانثاكي هوف وزوجها زونكه هوف، لتتحول الرؤية إلى تصميم ملموس ينبض بالحس التأملي الذي أراده دوشي.

ما بعد الرحيل: استمرار الفلسفة

رغم أن جائحة كورونا عطّلت التنفيذ لبعض الوقت، فإن المشروع لم يتوقف.
فبعد رحيل دوشي عام 2023، تولّى الزوجان بانثاكي وهوف إتمام العمل بإخلاص لفكرته الأصلية، وواصلا لاحقًا مشاريع أخرى تُجسّد إرثه، من أبرزها كتلة المراحيض الجديدة في معهد علم الأديان بمدينة أحمد آباد.

Doshi Retreat at Vitra, a pavilion made of corten steel and minimalist forms seen in the green countryside

رحلة التصميم: من فكرة صغيرة إلى تجربة غامرة

نشأ تصميم منتجع دوشي بطريقة يمكن وصفها بـ”العضوية”، إذ تطوّر بشكلٍ طبيعي أثناء عمل المعماريين الثلاثة معًا، ليتجاوز حدود المساحة الصغيرة التي تخيّلها رولف فِهلباوم في البداية.
تقول خوشنو بانثاكي هوف:

“كنا متوترين قليلًا، لأن رولف كان يتوقع مزارًا بمساحة مترين في مترين، لكن المشروع أصبح أكبر من ذلك. كل شيء كان مدفوعًا بالحدس.”

بهذا المعنى، لم يكن التصميم نتاج تخطيطٍ صارم بقدر ما كان ثمرة انسياب فكري وحدسي، ترك المجال للأفكار أن تنمو بحرية حتى اكتسب المشروع شكله النهائي.

رؤية تنبع من اللاوعي

تكشف خوشنو أن جوهر الفكرة انبثق من حلمٍ رآه دوشي، ظهر فيه ثعبانان يتشابكان معًا.
تحوّل هذا المشهد الرمزي إلى سردٍ مكتوب ثم إلى مخططٍ مرسوم، صيغت من خلاله المفاهيم والتفاصيل المعمارية.
وهكذا، ولدت العمارة من منطقة اللاوعي، لتصبح دعوة إلى رحلة اكتشاف داخلية تعكس فلسفة دوشي في الدمج بين الإحساس، والرمز، والوظيفة.

اختيار الموقع: توافق بين الفكرة والمكان

يقع المنتجع عند طرف مجمع فيترا، بالقرب من المدخل الرئيسي وعلى بُعد خطوات من مرافق التصنيع ومتحف التصميم.
ورغم أن هذا الموقع لم يكن الخيار الأول عند بداية المشروع، فإن الجولات المتكررة التي قام بها المعماريون في أرجاء المجمع قادتهم إلى قطعة أرضٍ مجاورة لجناح المؤتمرات الذي صمّمه تاداو أندو.
هناك، شعروا أن الطبيعة والمحيط يعكسان السكينة التأملية التي يسعى المشروع لتجسيدها، فكان ذلك المكان هو الموقع الأمثل لاحتضان الفكرة.

Doshi Retreat at Vitra, a pavilion made of corten steel and minimalist forms seen in the green countryside

اندماج العمارة بالطبيعة

أقيم منتجع دوشي على قطعة أرضٍ ذات تضاريس منحدرة تضم ثلاثة أشجار ناضجة، وهو ما فرض على التصميم أن يتفاعل مع البيئة بدلًا من السيطرة عليها.
لذلك جاءت بنية المنتجع كأنها تنسج مسارها بين النباتات القائمة، محفورةً في الأرض مثل دلتا نهرية تتفرع بلطف لتقود الزائر نحو الفضاء الرئيسي للجناح.
هذا التكوين الطبيعي لا يخدم الجمال فحسب، بل يعكس فلسفة دوشي في احترام الكيان العضوي للمكان والتعايش معه دون إلغائه.

تجربة العبور: من الأرض إلى السماء

تبدأ الرحلة إلى داخل الجناح بتدرّج مدروس يوازي تجربة تأملية روحية.
فكلّما تقدّم الزائر نحو المركز، ترتفع الجدران المحيطة تدريجيًا، حاملةً التربة والنباتات معها، مما يجعل النظرة ترتفع تلقائيًا نحو السماء.
هذه الحركة الرأسية المتصاعدة تمنح إحساسًا رمزيًا بـ الانفصال التدريجي عن العالم الخارجي، وكأن المكان يقود الداخلين إليه نحو حالة صفاء داخلي متنامٍ.

محطات التأمل على الطريق

على طول المسار، تتوزع نقاط استراحة صغيرة ترتفع قليلًا عن مستوى الأرض حول الأشجار، لتشكّل محطات تأمل طبيعية.
هناك يمكن للزائر أن يتوقّف، يستنشق الهواء النقي، ويعيد الاتصال بالمكان قبل متابعة طريقه إلى الداخل.
بهذا الأسلوب، يتحول الدخول إلى المنتجع إلى رحلة حسية تدريجية تمهّد للسكينة التي تنتظر في قلب الفضاء الرئيسي.

Doshi Retreat at Vitra, a pavilion made of corten steel and minimalist forms seen in the green countryside

المواد كلغة للهوية

تُعد المواد المستخدمة في منتجع دوشي عنصرًا جوهريًا في صياغة شخصيته البصرية والحسية.
فقد جرى تبطين المسارات بـ فولاذ XCarb المعتّق، وهو المعدن ذاته الذي يغلف الفضاء الرئيسي للجناح، لتتحقق وحدة مادية ولونية تُضفي تماسكًا بصريًا على التجربة الكلية.
يمتزج اللون الأحمر الداكن للفولاذ مع الطوب المكسر الذي يرصّف الطريق المؤدي إلى الجناح، ليخلق تباينًا متناغمًا مع العشب الأخضر المحيط.
بهذا التفاعل، يتحول اللون والملمس إلى وسيط حسي يربط الطبيعة بالعمارة، ويجعل العلاقة بينهما أكثر دفئًا وعضوية.

توازن لوني ينسج حوارًا مع الطبيعة

هذا الانسجام بين الحديد، والطين، والنبات لا يهدف إلى الجمال البصري فقط، بل يحمل بعدًا فلسفيًا يعكس رؤية دوشي في جعل المادة امتدادًا للطبيعة لا قطيعة معها.
فالانتقال من البيئة الطبيعية إلى المبنى يتم بسلاسةٍ متدرجة، وكأن العمارة تنمو من الأرض ذاتها.
ومن هذا التوجه، بدأ العمل على مخطط رئيسي جديد بإشراف مهندس المناظر الطبيعية البلجيكي باس سميتس، يهدف إلى إدخال الغابات الصغيرة داخل المجمع لتعزيز هذا الارتباط البيئي المستدام.

الداخل: فضاء التأمل والموسيقى الصامتة

في قلب المنتجع، ينفتح المكان على غرفة دائرية واحدة تتوسطها بركة مائية ساكنة، وتحيط بها مقاعد حجرية منحنية وبسيطة تدعو الزائر إلى الجلوس في حالة من السكون.
تتردد في الأرجاء أنغام الغونغ والناي الخزفي، ناعمة ومتناغمة، تُسمع بخفوت أثناء الاقتراب من الجناح ثم تغمر الداخل بصوتٍ عميقٍ واحتوائي، لتخلق حالة من الهدوء التأملي تتجاوز الإدراك السمعي نحو الإحساس الداخلي.

اللمسة الأخيرة: رمزية المندلة

يتوّج المشهد في الأعلى سقفٌ تتدلّى منه مندلة نحاسية مطروقة يدويًا في الهند، تذكّر بأصول دوشي الثقافية وتضفي بعدًا روحانيًا على التجربة.
بهذه الإيماءة الرمزية، يكتمل الحوار بين المادة والروح، بين الضوء والصوت، وبين الإنسان والمكان، ليصبح منتجع دوشي تجسيدًا لمعنى العمارة كحالة وعي لا كجدران فقط.

Doshi Retreat at Vitra, a pavilion made of corten steel and minimalist forms seen in the green countryside

الفولاذ ككائن حيّ يتفاعل مع الزمن

اعتمد منتجع دوشي على الفولاذ كمادة أساسية في تكوينه المعماري، وهو المعدن الذي قُدِّم كتبرّع من شركة أرسيلور ميتال (ArcelorMittal).
اختير هذا النوع تحديدًا لأنه مصمَّم ليتقادم بمرور الوقت ويُكوِّن طبقة صدأ طبيعية (باتينا)، تمنحه مظهرًا حيًّا ومتغيّرًا يعكس تفاعل المادة مع الطبيعة.
بهذه الطريقة، لا يبقى الفولاذ مجرد غلافٍ صلب، بل يتحوّل إلى عنصر زمني يتنفس ويتطور، مسجّلًا أثر المناخ والمواسم على سطحه.

استدامة تتجاوز الجمال البصري

توضح خوشنو بانثاكي هوف أن هذا الفولاذ أُنتج باستخدام موارد متجددة، في انسجامٍ مع نهج العمارة المستدامة الذي تبنّاه المشروع منذ بدايته.
فالهدف لم يكن فقط بناء فضاء تأملي جميل، بل أيضًا تحقيق انسجام أخلاقي وبيئي بين التصميم ومصادره.
كل تفصيل في المنتجع يعبّر عن هذا الوعي البيئي الذي يشكّل امتدادًا لفكر بالكريشنا دوشي القائم على احترام الطبيعة كمشارك في التصميم لا كخلفية له.

بناء خفيف الأثر

انسجامًا مع هذا التوجّه، تم تقليل الأثر البيئي لعمليات البناء إلى أدنى حدّ ممكن.
فبدلًا من حفر الأساسات بعمق كما هو مألوف، جرى تثبيت الهياكل باستخدام براغٍ لولبية تتيح ثبات البناء دون إحداث اضطراب في التربة الأصلية أو الغطاء النباتي.
بهذا الأسلوب، أصبح المنتجع جزءًا من المشهد الطبيعي لا كتلة غريبة مفروضة عليه، بل حضورًا متناغمًا ينساب في الأرض كما ينساب التأمل في النفس.

Doshi Retreat at Vitra, a pavilion made of corten steel and minimalist forms seen in the green countryside

منتجع دوشي: دعوة إلى العزلة والتأمل

صُمّم منتجع دوشي ليكون مساحة للتوقف الواعي والسكينة الداخلية، بعيدًا عن أي تصنيف معماري تقليدي.
إنه ليس مجرد مكان للبناء، بل تجربة حسية وروحية تدعو الزائر إلى العزلة والتأمل، لتصبح كل لحظة فيه فرصة للتواصل مع الذات وفهم البيئة المحيطة بوعي كامل.

العمق الإنساني لفلسفة دوشي

افتتاح المنتجع يمثل تجسيدًا حيًّا لإرث بالكريشنا دوشي في الحداثة المعمارية الهندية، ويُذكّر أيضًا بغيابه بعد رحيله عام 2023.
فالفكرة لم تقتصر على البناء، بل على تجسيد فلسفة الصمت والتأمل التي اتبعها دوشي طوال مسيرته، والتي تجلت في مشروعه الأخير.

الصمت كدليل وإرشاد

تقول خوشنو بانثاكي هوف عن تجربة استكمال المشروع بعد رحيل جدها:

«كان دوشي يقول دائمًا:

الصمت هو أكرم أشكال الإرشاد. وعندما رحل، كان صمته هو إرشادنا.»

بهذه الكلمات، يتضح أن المشروع لم يكن مجرد تصميم هندسي، بل كان امتدادًا لفكر معماري عميق، حيث يصبح الصمت والفلسفة الداخلية جزءًا من تجربة الزائر، ويحوّل المساحة إلى حوار بين الحاضر والماضي، بين الإنسان والمكان.


تحليل ArchUp التحريري

رغم أن منتجع دوشي يمثل تجربة حسية ومعمارية فريدة، ويبرز قدرة التصميم على خلق انسجام بين الطبيعة والفضاء البشري، فإن المشروع يقدم بعض النقاط التي قد تكون محل تفكير معماري مستقبلي. من الإيجابيات البارزة، قدرة المنتجع على دمج العناصر الطبيعية بذكاء، من تضاريس الأرض إلى الأشجار القائمة، مما يمنح الزائر شعورًا بالتدفق والانغماس في البيئة المحيطة. كما يُظهر استخدام المواد، لا سيما الفولاذ المعتّق والطوب المكسر، حسًا فنيًا مستدامًا يربط بين الملمس واللون والطبيعة، ويضيف طبقة زمنية يمكن ملاحظتها مع مرور الوقت.

مع ذلك، يثير المشروع بعض التساؤلات المتعلقة بالوظيفية والمرونة في الاستخدام. فتركيزه الكبير على التجربة التأملية والرمزية قد يحد من قدرة الزائر على التفاعل الحر أو تعدد استخدامات المساحة، كما أن الطبيعة العضوية للتصميم قد تجعل صيانته المستقبلية أكثر تحديًا، خصوصًا في ما يتعلق بالمناخ والمواد الحساسة. من جهة أخرى، قد يكون من المفيد دراسة إمكانية توسيع مفاهيم مثل “مساحة الصمت” لتشمل نطاقات أوسع أو عناصر تعليمية مرتبطة بالعمارة المستدامة والتفاعل مع البيئة، بحيث يمكن أن يستفيد منها المجتمع المعماري والطلاب والباحثون في المستقبل.

باختصار، يقدم منتجع دوشي مثالًا قويًا على كيف يمكن للعمارة أن تحوّل الفضاء إلى تجربة تأملية، ولكنه أيضًا يفتح الباب للنقاش حول التوازن بين الرمزية الجمالية والمرونة العملية، مما يجعله مصدرًا غنيًا للتعلم والدراسة في المجال المعماري.



قُدم لكم بكل حب وإخلاص من فريق ArchUp
لا تفوّت فرصة استكشاف المزيد من أخبار معمارية في مجالات الفعاليات المعمارية، و مشاريع معمارية، عبر موقع ArchUp.

Further Reading from ArchUp

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *