ين ذهبت العقارات؟ عندما تسبق العمارةُ “السيولةَ” في عصر الضباب الاقتصادي
كان حديثاً هادئاً، من النوع الذي لا ينبغي أن يحمل أي دلالة تتجاوز كونه “مراجعة تصميم” روتينية، لكنه لم يكن كذلك. كنا نناقش تفاصيل مبنى سكني متواضع مخصص لذوي الدخل المحدود: الارتدادات، تصميم النواة (Core)، البحور الإنشائية، مسارات الأنظمة الميكانيكية (MEP)، استراتيجية الواجهة، وكفاءة المساحات الداخلية.
المفاجأة لم تكن في التصميم بحد ذاته. المفاجأة كانت في العميل. هو لم يشترِ الأرض بعد. قطعة الأرض لا تزال معروضة في السوق، لا تزال قابلة للتفاوض، ولا تزال مجرد “إحداثية افتراضية” على نظام السجل العقاري. ومع ذلك، جلس بثقة بدت في غير محلها لعام 2025 قائلاً: “لا تقلق.. سنأخذها. السوق سيفسح المجال. والسيولة ستتبعنا لاحقاً.”
تلك الثقة — الإيمان بأن الأرض ستتجسد لأن السوق “يجب” أن يفعل ذلك — تلتقط سؤالاً عالمياً أوسع: أين تتجه العقارات بالضبط؟ وأين تقف العمارة عندما تتحرك الأرض نفسها تحت أقدامنا؟
يحاول هذا المقال الإجابة عن هذا السؤال ليس كتقرير سوقي، بل عبر عدسة العمارة، والسياسة الحضرية، وعلم النفس الاقتصادي، مستخدماً أدوات تحليل المدن Cities والبيانات العقارية العالمية.
أولاً: وهم السيولة في 2025: أسواق تتحرك بلا نقد
لم تعد السيولة اليوم كما كانت قبل عقد من الزمان. عبر الأسواق العالمية، تباطأت المعاملات العقارية بشكل حاد بين عامي 2022 و2025. تشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن أحجام المعاملات السكنية في الأسواق الحضرية الكبرى انخفضت بنسبة 18-30% حسب المنطقة. وصل نشاط الرهن العقاري في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى له منذ 28 عاماً بحلول أواخر 2024. في أوروبا، أبلغت دول مثل السويد وألمانيا وهولندا عن ركود في الأسعار وتجمد في المعاملات. وفي الصين، تخلف المطورون عن السداد بوتيرة تاريخية، تاركين أحياء كاملة غير مأهولة — عمارة شبحية في اقتصاد شبحي.
ومع ذلك، يواصل المشترون التصميم قبل الشراء، والتخطيط قبل التملك، والحلم قبل التمويل. لماذا؟ لأن السيولة اليوم تتصرف كأصل نفسي وليس مالياً. يفترض الناس أن المال سيأتي “لاحقاً”، وأن الأسواق “ستتعدل”، وأن السياسة “ستتدخل”. يتماشى هذا السلوك مع ما يسميه علماء الاقتصاد السلوكي “السيولة الاستباقية” (Anticipatory Liquidity)، حيث تصبح الثقة بديلاً عن النقد الفعلي.
العميل الجالس عبر الطاولة لم يكن غير عقلاني. كان يتصرف تماماً مثل ملايين الناس في 2025: يصممون أولاً، ويدفعون لاحقاً، مفترضين أن السوق هو “سيناريو” يحل نفسه دائماً. ولكن العمارة لا يمكنها الاعتماد على التفاؤل. يجب أن تواجه الواقع الاقتصادي.
ثانياً: إشارات عالمية: العقارات لا تختفي.. إنها تتحول
إذا فحصنا المؤشرات العقارية الرئيسية ونحن نتجه نحو 2025-2026:
- الأسعار لا تنهار.. إنها تتسطح: وفقاً لتوقعات “نايت فرانك” و”سي بي آر إي” لعام 2025، تظهر الأسعار السكنية العالمية نمطاً غير معتاد: لا ترتفع، ولا تنخفض، ببساطة تفقد الاتجاه. هذا الركود (Stasis) أخطر من التقلب.
- الطلب مرن، مجزأ، وجيليّ بعمق: جيل زد (Gen Z) غير راغب بشكل متزايد في شراء منازل تفتقر للمرونة. إنهم يفضلون “المعيشة المصغرة” (Micro-living)، الاشتراكات، السكن المشترك، والإيجارات عالية الرفاهية. بينما يحتفظ جيل الطفرة (Boomers) بمعظم الثروة العقارية، مما يخلق عنق زجاجة جيلياً في الملكية.
- خطوط أنابيب البناء تتقلص: انخفضت بدايات البناء العالمية بنحو 12-15% في الربع الأول من 2025 عبر أمريكا الشمالية وأوروبا. نقص العمالة وارتفاع أسعار مواد البناء Construction يعيق التعافي.
- الذكاء الاصطناعي يضغط على سلسلة القيمة: سير عمل العمارة تتم أتمتته. المطورون ينتظرون. المدن تعيد كتابة قوانين المناطق (Zoning) لتعكس العمل عن بعد والحياة الهجينة.
النتيجة: تقف العمارة عند مفترق طرق حيث المحرك الاقتصادي الذي غضاها تاريخياً التطوير العقاري — لم يعد قابلاً للتنبؤ. السؤال يصبح: ماذا تبني العمارة عندما تكون العقارات نفسها غير مؤكدة؟
ثالثاً: العمارة في مفترق طرق: عندما يعيد التقلب الاقتصادي تعريف الشكل
العمارة ليست مجرد نتاج لرأس المال؛ إنها جهاز تسجيل للمزاج الاقتصادي. عندما تصبح السيولة مترددة، تصبح العمارة حذرة. وعندما تكون الأسواق مبتهجة، تصبح العمارة باذخة. في هذه اللحظة، تواجه العمارة ثلاثة ضغوط متزامنة:
أ. تقلص أحجام الوحدات (Shrinking Unit Sizes): مدفوعة بارتفاع التكاليف والعادات الجديدة، تتجه الوحدات نحو الصغر عالمياً. طوكيو، سيول، باريس، وتورونتو تجسد اقتصاد “الوحدات المصغرة”. هذا يؤثر على كل شيء: الشبكات الإنشائية، منطق الحركة، الإضاءة النهارية، ونسب الحياة المنزلية.
ب. اختفاء المساحات الزائدة: في مقال سابق، استكشفنا “اختفاء المطبخ” — وهو اتجاه يدفعه “عمران توصيل الطعام”. هذا المنطق ينتشر:
- غرف تخزين منزلية أقل.
- تخفيض في غرف الضيوف.
- شرفات متقلصة.
- غرف مرنة “قابلة للتحويل”. العمارة تتخلى عن وزنها الزائد، مثل كائن حي يتكيف مع مناخ جديد.
ج. اضطراب منطق التصميم بفعل الذكاء الاصطناعي: الذكاء الاصطناعي لا يرسم المخططات فحسب — إنه يعيد تشكيل التوقعات. يتوقع المطورون الآن تكرارات أسرع، ورسوم تصميم أقل، وتفاصيل أكثر توحيداً (Standardized). هذا يضع ضغطاً هائلاً على المكاتب المعمارية التي يجب أن تقدم التطور بسرعة.
رابعاً: عدسة عالمية مقارنة: ماذا تخبرنا المدن الأخرى؟
- سيول: واحدة من أكثر أسواق الإسكان كثافة في العالم. هنا، يقلص المطورون كل بوصة من الوحدة لتعظيم العائد. تقلصت المطابخ بنسبة 40% في الوحدات المصغرة الجديدة بعد عام 2020. ثقافة التوصيل تهيمن. العقارات باهظة الثمن، لكن العمارة تتكيف عبر “الضغط”.
- برلين: الإيجارات مقيدة، العرض مجمد، وخطوط البناء انهارت. المصممون يجربون الآن الإسكان المعياري، الملكية التعاونية، وإعادة تفعيل المخزون الحالي بدلاً من البناء الجديد.
- دبي / الرياض: أسواق مدفوعة بثقة مدعومة من الدولة بدلاً من السيولة الصرفة. هنا، تظل العمارة جريئة، لكن التقسيم ينمو: الرفاهية تزدهر؛ السوق المتوسط يضيق؛ والإسكان منخفض الدخل يصبح أكثر تنظيماً ومدفوعاً بالكفاءة.
- تورونتو: واحدة من أكثر مدن العالم انعداماً للقدرة على تحمل التكاليف، حيث يقوم المطورون بشكل متزايد بتصميم المباني قبل حيازة الأرض — تماماً مثل عميلك. التصميم المسبق كتحوط ضد التقلب.
عبر هذه الحالات، تبرز نتيجة واحدة: العقارات لا تختفي. إنها تتبخر وتتكثف في أشكال جديدة.
خامساً: فلسفة قلق العقارات: لماذا يصمم الناس قبل أن يمتلكوا؟
الظاهرة التي شهدتها — عميل يصمم مبنى قبل شراء الأرض — ليست تهوراً اقتصادياً. إنها حالة فلسفية. إنها تنبع من:
- الخوف من تفويت دورة صعود (FOMO).
- الإيمان بأن الأرض سترتفع قيمتها دائماً.
- الضغط الاجتماعي ليصبح الشخص “مالك عقار”.
- الخيال المعماري كتعويض عن عدم اليقين المالي.
- أساطير السيولة (الاعتقاد بأن المال سيظهر لاحقاً).
في علم النفس الحضري، يسمى هذا السلوك “الملكية الاستباقية” — التخطيط كبديل للحيازة. العمارة تصبح نوعاً من العلاج.
سادساً: ماذا يعني هذا للمعماريين وصناع السياسات؟
للمعماريين:
- توقعوا المزيد من العملاء الذين يصممون قبل الالتزام المالي.
- استعدوا لوحدات أصغر، مطابخ مضغوطة، وتصاميم “نواة” (Core) فائقة الكفاءة.
- طوروا مسارات تصميم مزدوجة (متفائلة ومحافظة).
- ادمجوا الذكاء الاصطناعي استراتيجياً دون فقدان حقوق التأليف.
- أعيدوا تقييم اقتصاديات المواد في البناء.
لصناع السياسات:
- اخلقوا أطراً للإسكان المصغر الميسور التكلفة.
- نظموا التصميم المضاربي لمنع التشوه الحضري.
- ادعموا “إعادة الاستخدام التكيفي” (Adaptive Reuse) على حساب البناء الجديد.
- شجعوا السياسات التي توازن بين الدورات الاقتصادية والشكل الحضري.
الخاتمة: السوق لم يتلاشَ.. لقد تحور
أين هي العقارات؟ إنها ليست مفقودة. إنها تتحول أسرع من قدرتنا على تفسيرها. لقد انتقلت من الملكية إلى الوصول، من الاستقرار إلى التدفق، من الأنماط الجامدة إلى الأشكال المتكيفة. العمارة، العالقة في هذا الاضطراب، يجب أن تختار ما إذا كانت ستقاوم، أو تتوافق، أو تقود.
عميلك — الواثق، الهادئ، غير المهتز بمسألة السيولة — ليس حالة غريبة. إنه رمز لعصر جديد: عصر تتحرك فيه فكرة العقار أسرع من المال الذي يمولها. العقارات لم تختفِ. لقد أصبحت ببساطة “بخاراً” — وعلى العمارة أن تقرر كيف تبني باستخدام البخار.
✦ ArchUp Editorial Insight
في هذا المقال الذي يستعرض اتجاهات “عمارة العقارات” في 2026، يتضح سعي المحرر لقراءة المشهد العقاري من منظور معماري بحت، مع محاولة ربط التحولات الاقتصادية بالسلوك التصميمي للمطورين والمستخدمين. النبرة العامة للمقال حادة وفيها تعميمات مثيرة للجدل، مثل تشبيه بعض العمارات الحديثة بـ”نفس العطر على وجوه مختلفة”، وهو وصف بلاغي قوي لكنه يحتاج إلى بيانات داعمة أو أمثلة مشروع واضحة لتعزيز المصداقية. النص يفتقر لروابط داخلية وتحليل زمني واضح يربط الماضي القريب بالرؤى المستقبلية، مما يضعف قيمته التنبؤية. رغم ذلك، قوة المقال تكمن في وضوح موقفه النقدي ورغبته في كشف الدور الخفي لرأس المال في توجيه الذوق العام. يُنصح المحرر بمراجعة سياسة التحرير لضمان توافق المقال مع معايير ArchUp في السرد المدعوم بالمراجع، خصوصًا أن المقال مرشح ليصبح وثيقة مهمة عند مراجعة أنماط البناء العقاري خلال عقد 2020.