تُصمم المدن لتكون مساحات تجمع المجتمعات وتحتضن التنوع وتوفر فرص التواصل الإنساني. لكن مؤخرًا ظهر توجه معماري مثير للجدل يهدف إلى تشكيل هذه المساحات العامة بشكل عدائي وإقصائي. تُعرف هذه الظاهرة بـ العمارة العدائية (Hostile Architecture)، وهي تتمثل في استخدام عناصر وتصاميم تحدّ من الاستخدام الحر للمساحات، وتستهدف بشكل خاص الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع، مثل المشردين أو الفقراء.

ما هي العمارة العدائية؟ الأهداف والنتائج

تتخذ العمارة العدائية أشكالًا مختلفة، مثل المقاعد المائلة التي لا يمكن الاستلقاء عليها، أو المسامير الحديدية التي تُثبّت في الزوايا والأماكن المحمية، أو مساند المقاعد التي تمنع النوم. قد تبدو هذه التصاميم للوهلة الأولى عملية أو جمالية، لكنها في الواقع تمثل نزعة سلبية تعكس الرغبة في إبعاد أو منع فئات معينة من استخدام المكان.

تنتشر أمثلة كثيرة لهذه التصاميم في مدن عالمية كبرى:

  • مقعد كامدن (لندن): صُمم بشكل هندسي يمنع الاستلقاء أو النوم، ما جعله رمزًا للعمارة العدائية.
  • المسامير المعدنية: ظهرت أمام المباني في باريس ومانشستر لمنع المشردين من الاحتماء أثناء الظروف الجوية الصعبة.
  • المساند الحديدية على المقاعد العامة: منتشرة في حدائق نيويورك، وتهدف لمنع الناس من النوم أو الاستراحة الطويلة.

يرى منتقدو هذا التوجه أنه لا يحلّ المشكلة الأساسية، وإنما يساهم في إقصاء الفئات الضعيفة وتهميشها دون توفير حلول حقيقية لأزمات الإسكان والفقر.

من هم المتضررون من هذه العمارة؟

تشير تقارير الأمم المتحدة (2023) إلى أن عدد المشردين عالميًا يصل إلى حوالي 150 مليون شخص، فيما يفتقر نحو 1.6 مليار شخص إلى مساكن ملائمة. العمارة العدائية تستهدف هؤلاء بشكل مباشر، وتزيد من شعورهم بالإقصاء وتدفعهم إلى مزيد من التهميش.

تؤكد منظمات حقوقية أن هذه التصاميم تعكس تمييزًا ممنهجًا تجاه الفئات الأكثر فقرًا، إذ يُبعث من خلالها رسالة واضحة: «هذا المكان ليس لكم».

البُعد الأخلاقي والعدالة الاجتماعية

يثير انتشار العمارة العدائية قضايا أخلاقية هامة حول دور التخطيط الحضري في تعزيز العدالة الاجتماعية. هل تهدف العمارة حقًا إلى تحسين جودة الحياة، أم أنها تخدم مصالح تجارية وتهمّش فئات معينة؟

يدافع البعض عن هذه التصاميم بأنها تحافظ على النظام والسلامة والنظافة، لكن الدراسات تشير إلى أنها لا تحل مشكلة التشرد، بل تدفع هؤلاء الأشخاص إلى أماكن أخرى أقل أمانًا ووضوحًا. دراسة أجراها معهد أبحاث التشرد (2022) كشفت أن المدن التي اعتمدت العمارة العدائية لم تشهد انخفاضًا في معدلات التشرد، بل زادت من عزلة المهمشين.

ما تشوفونه بالصورة ليس مجرد “تصميم عصري”، بل سياسة معمارية هدفها منع الناس من الجلوس، النوم، أو حتى استخدام الفراغات العامة بحرية.
من المقاعد المائلة إلى المسامير الحديدية، العمارة أصبحت أداة لإقصاء الضعفاء بدل احتضانهم.
هل هذا هو مستقبل مدننا؟ عمارة لا ترحم، تحوّل الأرصفة إلى شفرات حلاقة تحت أقدام البشر؟

العمارة ليست فقط خطوطًا وزوايا، بل مسؤولية اجتماعية.

ردود الفعل العالمية

ظهرت ردود فعل معارضة للعمارة العدائية في عدة مدن عالمية:

  • تورونتو (كندا): في عام 2021، نجح نشطاء في إزالة المسامير التي وضعت تحت الجسور، مما أدى إلى اعتماد سياسات تخطيطية أكثر شمولية.
  • بورتلاند (الولايات المتحدة): وضعت المدينة سياسة واضحة تمنع استخدام التصاميم العدائية وتشجع الإسكان الاجتماعي.
  • برشلونة (إسبانيا): اعتمدت المدينة نهجًا تخطيطيًا منفتحًا يهدف إلى تعزيز التفاعل الاجتماعي وتحسين الوصول العام إلى المساحات العامة.

تسلط هذه النماذج الضوء على إمكانية تصميم مدن صديقة للجميع، بدلاً من إقصاء فئات معينة.

نحو تخطيط حضري شامل

ليس من الضروري أن تتبع المدن توجه العمارة العدائية. فهناك بدائل عديدة يمكن اعتمادها لتحقيق العدالة الاجتماعية:

  • تصميم مساحات شاملة: توفير مقاعد ومساحات تتسع لكافة فئات المجتمع دون تمييز.
  • سياسات الإسكان المتكاملة: معالجة جذور مشكلة التشرد عبر توفير مساكن ميسرة وخدمات اجتماعية مناسبة.
  • تصميم يراعي الإنسان أولًا: اعتماد فلسفة التصميم الحضري القائم على التعاطف والاحترام المتبادل.

خلاصة: المدن يجب أن تُعالج ولا تؤذي

الفضاءات العامة هي ملك للجميع، هدفها تعزيز التماسك الاجتماعي وتوفير فرص التفاعل الإنساني. تعكس العمارة العدائية انحرافًا واضحًا عن هذه القيم، وتكرس ممارسات الإقصاء والتهميش.

مع التزايد السكاني في المدن، والذي تتوقع الأمم المتحدة وصوله إلى 6.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، تزداد أهمية التصاميم الحضرية التي تراعي الإنسانية وتعزز التضامن الاجتماعي.

في النهاية، يجب أن تسعى العمارة إلى بناء بيئات حضرية تُعالج ولا تؤذي، وتحمي كرامة الجميع، دون تمييز.

مصادر:

  • معهد أبحاث التشرد، «آثار العمارة العدائية»، 2022.
  • تقرير الأمم المتحدة حول التشرد العالمي، 2023.
  • صحيفة الغارديان، «المسامير المضادة للمشردين وأزمة الفضاء العام»، 2021.
  • كتاب «التخطيط الحضري الشامل: إعادة تصميم المدن من أجل العدالة الاجتماعية»، دار نشر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، 2022.

#التخطيط_الحضري #العمارة_العدائية #العدالة_الاجتماعية #أخلاقيات_التصميم #المساحات_العامة

If you found this article valuable, consider sharing it

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *