نحن نصنع مبانينا ثم تصنعنا هي.. عادات الشعوب في الفراغات المعمارية
أبدى ونستون تشرشل حكمة خالدة حين قال: “نحن نشكّل مبانينا، وبعد ذلك هي التي تشكّلنا”. هذا الاقتباس لا يشير فقط إلى تأثير العمارة على حياتنا، بل يلفت الانتباه أيضًا إلى كيف أن عاداتنا وتقاليدنا تندمج مع المساحات التي نعيش فيها. هذه العلاقة المتشابكة بين الثقافة والعمارة تتجلى بوضوح في العادات والتقاليد المرتبطة بالفراغات المعمارية حول العالم.
عند زيارتك لإيطاليا، ربما تجد نفسك أمام موقف غريب؛ إذا دخلت محلًا تجاريًا وجلست فقط للراحة، قد تواجه أسئلة من الباعة حول نواياك أو احتياجاتك. في الثقافة الإيطالية، يُنظر إلى استخدام الأثاث في المتاجر فقط بهدف الراحة دون نية الشراء كتصرف غريب وربما يثير فضول أصحاب المكان، لأن الفراغ التجاري هناك مخصص بشكل واضح للبيع وليس للاستراحة.
في المقابل، في الولايات المتحدة الأمريكية، قد يبدو هذا التصرف مقبولًا تمامًا. دخولك إلى محل تجاري والجلوس دون أن تكون لديك نية شراء لا يعد أمرًا غريبًا أو مرفوضًا، بل قد يُعتبر من الوقاحة أن يسألك البائع عن سبب جلوسك أو دخولك للمكان. هذه الاختلافات تنبع من تصورات ثقافية حول طبيعة الفراغ المعماري ووظيفته في الحياة اليومية.
أما إذا كنت في تركيا ودخلت إلى منزل ما بحذائك، فإن هذا التصرف سيُعد مخالفة واضحة للعادات الاجتماعية، حيث يُعتبر الدخول بالأحذية أمرًا غير لائق وغير نظيف. الأتراك عادةً يحرصون على توفير “الشبشب” أو “النعال الداخلي” للضيوف، وهذا التصرف يتماشى مع النظافة والتقاليد الدينية والاجتماعية.
أما في اليابان، فالأمر أكثر صرامةً ووضوحًا؛ فالدخول بالأحذية إلى المنازل أو حتى إلى بعض المعابد والمطاعم التقليدية يُعد تصرفًا غير مقبول أبدًا. عادة ما تُخصص مناطق خاصة لترك الأحذية واستبدالها بأحذية داخلية مخصصة للمكان. هذه الممارسة متأصلة في الثقافة اليابانية المرتبطة بمفهوم “النقاء” و”النظافة”.
وفي الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا الغربية، هناك اعتقاد ثقافي قديم بأن فتح المظلة داخل الأماكن المغلقة يجلب النحس وسوء الحظ. هذا الاعتقاد، رغم قدمه وعدم وضوح مصدره، لا يزال حاضرًا بقوة في الثقافة الشعبية الغربية. أما في مناطق أخرى، قد لا يحمل هذا التصرف أي دلالات ثقافية أو اجتماعية.
وفي الدول الاسكندنافية مثل السويد والنرويج، يُعتبر من غير المقبول أن تدخل المنازل مرتديًا الجاكيت الثقيل أو المعطف دون أن تخلعه فور دخولك. هذه العادة تنبع من التقدير للمنزل كفراغ دافئ ومريح، وإبقاء المعطف داخل المنزل قد يفسر على أنه رفض لضيافة أصحاب المنزل أو عدم الشعور بالراحة فيه.
أما في الهند، فتعتبر القدم رمزًا للنجاسة، لذا يُعد توجيه القدم نحو الأشخاص أو الأشياء المقدسة أمرًا غير مقبول إطلاقًا. كما أنه من غير اللائق لمس الأشياء الدينية أو الأماكن المقدسة بالقدم.
تؤكد هذه الاختلافات والتقاليد أهمية الفراغ المعماري ودوره في تشكيل وتعزيز الهوية الثقافية والاجتماعية للشعوب. فالعمارة ليست فقط تصميمًا ووظيفةً، بل هي أيضًا وسيلة للتعبير عن قيم المجتمعات والتفاعل مع بيئتها بطريقة تتوافق مع تقاليدها وثقافتها.
إن هذه التقاليد المعمارية والاجتماعية، على اختلافها، تُظهر كيف أن المباني ليست مجرد كتل خرسانية أو خشبية، بل هي مكونات ثقافية حية، تتأثر بالمجتمعات التي تستخدمها وتُشكل حياتهم في آن واحد.