التوازن الأرضي: كازا بي بي ترسم شرياناً معمارياً في أفق قرطبة
هذا المشروع يُقدّم معالجة مفهومية للموقع أكثر من كونه مجرد تصميم بصري، حيث يستثمر المهندس سانتياغو بيرتوتي العلاقة بين الكتلة واللامرئي كاستجابة إقليمية دقيقة. يتجلى النقد المعماري في الإتقان الذي يُدير به المشروع التناقض بين واجهته الصلبة والمُتجنبة عند نقطة الوصول، والانفتاح الكامل على المشهد الطبيعي عبر رواقه الخشبي المُظلل، ما يُجسد استجابة مناخية مُقنعة. إن اعتماد المواد المحلية والصبغات الترابية يعكس التزاماً بالشفافية الزمكانية، ويجعل المبنى يتلاشى طيفياً مع التغيرات اليومية للضوء في بيئة قرطبة السيرّانية. الأهمية المستقبلية لـ “كازا بي بي” تكمن في كونه نموذجاً متطوراً للعمارة الإقليمية الحديثة التي ترفض الفخامة المعزولة وتتبنى التأصيل الإقليمي في العمارة كفلسفة تصميم، وهي ضرورة وجودية في مواجهة التغير المناخي والوعي السياقي المُتزايد.

جدار الفصل: أول لقاء مع المشهد المُتغير
يبدأ التنقل نحو هذا المسكن المُقام على جزء مرتفع من الموقع بإحساس بالانغلاق. من جهة المدخل المخصص للسيارات، يقدم الجسم الرئيسي نفسه ككتلة صامتة وموحّدة، ذات جدارية مُغلقة تكاد تكون بلا نوافذ. هذا النهج ليس مجرد خيار جمالي، بل هو استراتيجية للحماية من العناصر الخارجية وتوفير الخصوصية. هذه الكتلة الطولية، الموجهة بشكل صارم بمحاذاة حدود الموقع، تتجذر في التضاريس عبر منصة خضراء تتبع الانحناءات الطبيعية للأرض. هذا التجذر يُعزز مفهوم التأصيل الإقليمي في العمارة ويضمن استقرار البناء.
فور تجاوز الجدار الكتلي، تتحول التجربة بالكامل. يكشف المسكن عن واجهة مفتوحة بالكامل، تطل على المشهد الريفي الممتد. هنا، تتجلى بوضوح العملية المعمارية المزدوجة: الكتلة الثقيلة بلون الأرض تتقابل مع جناح داعم خفيف وعصري، يتميز بأسطحه الزجاجية وإطاراته السوداء.

المسار الطولي: تدفق الحياة نحو الخارج
تتمحور الحياة داخل المسكن حول تخطيط طولي دقيق. يتبنى المهندس تصميمًا خطيًا يسمح بحركة انسيابية بين الأقسام. يشكل القطاع الاجتماعي نواة مدمجة تشمل غرفة المعيشة، منطقة الطعام، والمطبخ، مُدمجة في مساحة واحدة مستمرة. هذا التدفق المكاني مرن ويسمح بتعديل الاستخدامات بسهولة.
يفتح هذا المركز مباشرةً على معرض خارجي طويل وموازٍ. هذا المعرض ليس مجرد ممر، بل هو جسر يربط الأنشطة الداخلية بالبيئة الخارجية. يُستخدم التوجيه والفتحات في هذا الجزء للسماح للحياة اليومية بالامتداد إلى الخارج بسلاسة، مُستفيدة من الإطلالة والضوء الطبيعي.
في المقابل، يقع القطاع الخاص أي غرف النوم في الجناح الأيمن. تفصلها عن النواة الاجتماعية مساحة عازلة وممر. تم ضبط الفتحات في هذا الجزء بعناية متناهية. لا تُعنى هذه الفتحات بالخصوصية فقط، بل تلعب دوراً حاسماً في التحكم بدخول ضوء النهار وضبط المناخ الداخلي، مدعومة بكتلة الجدران الخارجية.

الملمس الأرضي: تقنيات تعكس السياق
لتحقيق مفهوم التأصيل الإقليمي في العمارة، استُخدمت مواد تتناغم مع المناخ والسياق الجغرافي للمنطقة. لوحة المواد تعزز شعوراً بالاستقرار والاتصال العميق بالموقع.
فيما يلي أبرز المواد والتقنيات المستخدمة:
- الجدران المصبوغة: جدران مغطاة بملاط أسمنتي مُلوّن بصبغة، بنسبة 100% من اللون الأرضي. تتميز هذه الجدران بلمسة نهائية معدنية ونسيج حرفي.
- الهيكل الخشبي: نظام إنشائي من الخشب الصلب، يُستخدم في المعرض الرئيسي بنسبة 70% من الواجهة المفتوحة. يظهر هذا النظام في الأعمدة غير المنتظمة والأسقف الشرائحية.
- المعدن والزجاج: إطارات من المعدن الأسود والزجاج تستخدم في الجناح التكميلي بنسبة 100% من واجهته، حيث تُعدل الشفافية عبر المظلات الشمسية والكوات المتحركة.
- المسطحات المائية: يتوضع مسبح خطي بمحاذاة المعرض، يشكل مستوى أفقياً عاكساً يمدد هندسة المسكن.
- العزل: استخدام كتلة الجدران الخارجية كـكتلة حرارية لضمان استقرار المناخ الداخلي وتقليل الاعتماد على التبريد الاصطناعي بنسبة تقدر بـ 40%.

عمارة الظلال: حوار الألوان مع الزمن
تُعد العلاقة بين المسكن والموقع حواراً مستمراً. يتم دمج تنسيق الموقع باستخدام الأنواع النباتية المحلية مثل الأعشاب والشجيرات، مُشكّلاً امتداداً للنظام البيئي المحلي وليس مجرد تزيين. هذا التوجه نحو التأصيل الإقليمي في العمارة يُرسخ المبنى كـ”عنصر إقليمي” يقرأ المشهد وُيضخّمه.
الجسم الكتلي المصطبغ يتخذ ألواناً أرضية تُحاكي محيطه الريفي. هذه الألوان ليست ثابتة، بل تتغير مع حركة الشمس. عند الشروق، تمتص الجدران الضوء الدافئ فتتحول إلى درجات وردية هادئة. وعند الغروب، تتعمق الظلال لتحولها إلى ألوان مغرة غنية. في الأيام الغائمة، تسجل كسطح هادئ وغير لامع. هذا التباين المدروس بين الواجهة المغلقة عند المدخل والواجهة المفتوحة نحو المنظر، يسمح للمسكن بإدارة التعرض للطقس والضوء بفعالية كبيرة، مما يُثبت أنه لا يعارض سياقه، بل يدخل معه في توافق عميق.
✦ ArchUp Editorial Insight
يُظهر مشروع كازا بي بي تحليلاً بصرياً متقناً للموقع، حيث يتجسد في شكل كتلي أفقي مُصمَّت عند المدخل، يتحول تدريجياً إلى خط معماري شفاف ومتعدد الطبقات في مواجهة المشهد. إن هذا التلاعب المزدوج بالكتلة واللاكتلة هو جوهر المقاربة النقدية: تمنح الجدران المصبوغة بلون التربة المبنى وزناً تاريخياً وذاكرة مكانية، بينما يمثل الجناح الزجاجي الخفيف استجابة وظيفية للعصر. النقد الموجه هنا هو أن هذا الفصل الحاد بين النقيضين قد يُفقد التصميم وحدته التعبيرية في بعض الزوايا. ومع ذلك، يكمن الإنجاز في التناغم اللوني العميق مع بيئة قرطبة، مما يضمن للمسكن قيمة توثيقية دائمة كنموذج متقدم لـالتأصيل الإقليمي في العمارة.